بقلم: سمير عطا الله
لعلّكم طالعتم الأنباء عن القوانين الشديدة التي فرضتها سلطات روما على السيّاح في منطقة «الدرَج الإسباني» حيث اعتاد الهائمون القادمون من أنحاء العالم على اعتبار تلك الأحجار الجميلة جزءاً من مساكنهم، ينامون عليها في الليل والنهار، ويتناولون طعامهم السريع هناك أيضاً. كل ذلك أصبح ممنوعاً الآن تحت طائلة العقوبات الشديدة. وقد أحدثت القرارات ضجّة كبرى في أوساط «حقوق الإنسان» و«حقوق السيّاح» و«حقوق المشرّدين».
اعتدت أيام الشباب السكن في فندق رخيص يدعى «الإنترناسيونالس» ويقع عند مدخل الأدراج الأثرية. وكنت أعثر لنفسي على موضوع أكتب عنه، تقريباً كل يوم. وعندما لا أعثر على موضوع، ألقى لوحة صغيرة أشتريها من الرسامين الشباب الذين يبيعون إنتاجهم على السلالم الحجرية. وروما مثل بيروت، تدلّل زائريها فلا يعودون يميّزون بين حدود التأهيل وحدود الدلع. والحمد لله أنني تصرّفت معها دوماً بكل أدب، مقدّراً أنها متحف تاريخي مفتوح لجميع البشر، حيثما تنقّلت فيها. غير أن الدرَج الإسباني كانت له مكانة خاصة وذكريات كثيرة بسبب الإقامة في الفندق وبسبب المعاملة التي كنا نلقاها من صاحبته، السيدة العجوز، السنيورة سيلفانا.
لهذا السبب لم تكن مسألة التنظيم الجديدة مجرّد خبر اجتماعي بالنسبة إليّ. إنه حدث شخصي، ربما لعشرات الألوف من الناس الذين مرّوا بالدرَج متأمّلين من حولهم جمال روما. ومن دون أي تردد، فرحت بقرار الطرد، لأنني أيضاً واحد من آلاف تضرّروا من تغيّر معاني السياحة ومقاييس الجمال في هذا العالم، وخصوصاً في المدن الأليفة التي عشنا فيها مراحل من شبابنا، مثل روما وباريس والبندقية وفلورنسا وغيرها. هذه مواقع فقدت جميعها ذلك الوجه الجمالي الذي عرفناه. وبسبب تدفّق هذا النوع من السيّاح والمشرّدين وفاقدي الأحاسيس الأدبية، أصبح الهادئون والمتأمّلون ومحبّو الجمال التاريخي يتجنّبون مشاهد الاحتلالات المذرية وقلّة النظافة والثياب المهلهلة أو الوسخة، تحت شعار الحرية الشخصية.
لقد نسف «الهيبيون» الكثير من جماليات أوروبا وأميركا. ولست أقصد على الإطلاق الفقراء وفاقدي المساكن، وإنما أعني الخاملين والكسالى الذين شوّهوا المعالم وغيّروا طبيعة العلاقات بين الناس، بحيث اضطرّت مدينة مثل روما إلى تغيير قوانينها. وأنا واثق من أنه لم يعد هناك «سنيورة سيلفانا»، العجوز اللطيفة التي تقدّم القهوة للنزلاء مجاناً، أو تصبر عليهم أحياناً في تسديد الفاتورة، أو تعتبر أنهم أصبحوا من أهل الفندق بعد عدد معيّن من الزيارات. هذا هو عالمنا الجديد وعلينا أن نتقبّله. وأذكر أنني في أول زيارة إلى باريس، عدوت عدواً مثل الأطفال لكي أشاهد الـ«شانزيليزيه» واليوم أسافر إلى باريس وأعود منها وأنا أتجنّب شيئاً واحداً: المرور في تلك الجادة التي كانت حلماً من أحلام الناس حول العالم.