توقيت القاهرة المحلي 22:45:33 آخر تحديث
  مصر اليوم -

باقة ورود برية

  مصر اليوم -

باقة ورود برية

بقلم: سمير عطا الله

لست أذكر اليوم الذي غابت فيه مهيبة سلامة، سوى أنه كان شتاء. حاولت أن أبحث عنه في السجلات وفي ذاكرة البعض، لكن يبدو أنه كان تاريخاً غير مهم لأحد. إنه أهم يوم في حياتي. اليوم الذي أصبحتُ فيه، وأنا في العاشرة، مهزوماً مدى العمر.
لأنني لم أتوصل إلى معرفة ذلك اليوم، أقوم في عيد الأمهات بزيارة مدفنها. عيدٌ عام، في أكثر قضايا الأرض خصوصية. لكن كل أم هي جميع الأمهات. ولا أخاطبها خلال الزيارة كثيراً لأنه، بالنسبة لها ولي، يوم مثل جميع الأيام. يستحيل أن يمضي من دون أن تتراءى لي، مرتدية ثوباً طويلاً أبيض طرّزت عليه وروداً وحناناً وأمومةً. كانت تطرز الزهور والورود والفراشات، لكي نعيش. رأيتُ أبي في البيت مرة واحدة في خيال خاطف. وكان يعنِّفها.
أفسدتني سنوات الأمومة العشر. صارت الدنيا رماداً وأنا طفل. وصارت الذاكرة جريحة، وصار ظلم الوحدة مثل قسوة الصخب. كانت لا تزال شابة، وكنت لا أزال طفلاً، ومن بعدها صارت الطفولة دمعاً، وصار الشباب ضياعاً. لم تعد للأشياء قيمة، ولا للسنين معنى. المهزوم لا يطيق الحياة. كائن هزيل مع قدره. كل ما يستطيعه هو الحزن. وكل أحزان الأرض لا تفي مهيبة سلامة.
جاءت أمي إلى الزواج من عائلة ميسورة تماماً. لا معنى هنا للتفاصيل. كل شيء أصبح الآن بعيداً، إلا حضورها، تعمل كيفما تنقلت، تشقى وتتعب، وفي الليل تقرأ الروايات الحزينة. وإذا ما زارتها بنات شقيقاتها عند العصر، طالبنها بأن تغني لهن بصوتها الذهبي، الأغاني التي تفرح لها الصبايا، والقصائد التي تولد بموسيقاها. جمال اللحن من جمال الشعر.
كنا نسكن في منزل والدها الكبير. غرف كثيرة وخالية وعتم في الشتاء، وقنديل شحيح لكل المساحات. شرفة رائعة لها أعمدة رخامية منحوتة بأزميل شاعري. لكن في العام التالي جاء أصحاب البيت «الأصليون»، وكان على الابنة المطلقة أن تنتقل بنا إلى منزل مستأجر قريب. هل قالت مهيبة سلامة شيئاً؟ هل سمعتها مرة تشكو هجران أبي؟ هل غابت ابتسامتها على سرير المرض؟ هل تذمرت من القلّة التي تملأ البيت وتملأ كوكبها الحزين؟ هل غضبت؟ هل علا صوتها إلا في الأغنيات التي تطلبها الصبايا، اللواتي يمنحن أسرارهن اللطيفة إلى خالتهن ذات العينين الخضراوين، خضرة ملوكية مثل بحيرة الإسكندرية في زمن الأساطير.
عشت مهزوماً بعد أمومة مهيبة سلامة. ولم أستطع أن أدرك أن كل شيء في هذه الدنيا يخلق وله بديل إلا الأم. وطفقت تائهاً في العالم أبحث عنها. وعندما أيقنت مدى الضياع والهزيمة، صرت أكتفي بباقة من الورود البريّة في عيد الأمهات. الورود التي كانت تزين بها بيتنا الصغير. لم تكن تملك ثمن ورد الحدائق. لو تدري مهيبة سلامة، أي أم أفقدتنا يوم استقلت، في سكينة، عربة الأحزان.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

باقة ورود برية باقة ورود برية



GMT 10:17 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

ممدوح عباس!

GMT 10:15 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

القديم والجديد؟!

GMT 08:33 2024 السبت ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

فرنسا تتصالح مع نفسها في المغرب

GMT 03:37 2024 الأحد ,13 تشرين الأول / أكتوبر

حزب المحافظين البريطاني: «لليمين دُرْ»!

GMT 23:09 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

هل يمكن خلق الدولة في لبنان؟

GMT 12:35 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024
  مصر اليوم - أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024

GMT 17:17 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب
  مصر اليوم - الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب

GMT 22:45 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

زينة تستعد للمشاركة في الدراما التركية
  مصر اليوم - زينة تستعد للمشاركة في الدراما التركية

GMT 07:12 2024 الجمعة ,13 كانون الأول / ديسمبر

فينيسيوس الأفضل في العالم لأول مرة وهذا ترتيب ميسي وصلاح

GMT 15:43 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 22:56 2019 الإثنين ,09 كانون الأول / ديسمبر

إيهاب جلال يطمئن على فريد شوقي بعد تحسن حالته

GMT 16:26 2019 الأحد ,10 آذار/ مارس

سيدة كل العصور

GMT 06:37 2018 الثلاثاء ,28 آب / أغسطس

تعرف على سعرالمانجو في سوق العبور الثلاثاء

GMT 01:04 2018 الثلاثاء ,01 أيار / مايو

وداع أندريس إنييستا يخيم على احتفالات برشلونة
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon