بقلم : سمير عطا الله
كان لدى كبير الصحافة اللبنانية، غسان تويني، ثلاثة أبناء: ماتت طفلته البكر، نايلة، بالمرض. ثم فقد ابنه الثاني، مكرم، في حادث سيارة. قبله فقد أمهما، الشاعرة ناديا. وظل واقفاً. كان أحياناً يطلب مني أن أمر عليه في الصباح لأرافقه إلى لقاء ما. أدخل غرفة الفندق وألاحظ أن السرير، سرير رجل لم ينم من كثرة ما تقلب أرقاً. وفي باقي النهار كان يغالبه النعاس فيغفو ونحن نتحدث ولا يتفوه بشكوى، أو تذمر، أو يكدّر جلسة أو مأدبة.
بقي له في الدنيا ابنه جبران. وعندما حان وقت أن يسلمه «النهار» كما تسلمها هو من والده، جبران، تردد. لا يريد له مخاطر السياسة اللبنانية، خصوصاً لمعرفته بأن جبران مبالغ في الشجاعة وفي الدفاع عن مواقفه. لكن، لم يكن أمامه خيار آخر.
ظل إلى جانب جبران خائفاً. ولكي لا يتدخل في شؤونه كرئيس تحرير، صار يداوم في «دار النهار للنشر» بعيداً عن مبنى الجريدة. وكان من بعيد، يوسط رفاقه في إقناع جبران في التروي. وبدوره كان جبران، النبيل هو أيضاً، يوسِّط الرفاق أنفسهم في إقناع والده بصحة مواقفه.
لم يعد جبران الصاعد مثل والده أيام شبابه، يتوقف عند شيء. أخذ مقعد والده في البرلمان. وقاد المظاهرات. وكتب الافتتاحيات النارية. وكان الأب يزداد خوفاً على الابن الذي يرى فيه صورته وحماسه وحيويته. وعندما ازداد الخوف، طلب من بعض رفاقه إقناع جبران بالبقاء في باريس إلى أن تخف حدة الأزمة التي راحت تكبر وتتوسع بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري.
اعتبر جبران البقاء خارج بيروت و«النهار» جبناً لا يليق به ولا بالجريدة التي خاضت جميع معارك لبنان الاستقلالية. وذات يوم، كان متوجهاً إلى الجريدة عندما انفجرت به وبالصحافة ولبنان، القنبلة التي جرَّدت غسان تويني من ابنه الأخير.
ماذا فعل الجبار غسان تويني؟ قال فوق نعش جبران: لا وقت للضغينة والثأر! صدرت قبل أيام مذكرات الراحل إدمون صعب «مسيرة عمر مع غسان تويني»، يروي فيها مراحل عمله في «النهار» - (دار الفارابي)، محرراً، ثم رئيس تحرير تنفيذياً. توقفت طويلاً عند صورتين. الأولى، خلال الجنازة، غسان تويني يمرر إلى إدمون صعب ورقة صغيرة في حجم ورقة سيجارة كتب عليها عنوان مانشيت الغد: مات جبران، و«النهار» مستمرة.
تنتهي الجنازة الكبرى ويبدأ المشاركون في الانصراف، فيشير غسان تويني إلى إدمون صعب أن يقترب منه، ليهمس له: «اذهب فوراً إلى (النهار)، وابذل كل جهد لكي لا يبكي المحررون في المكاتب».