بقلم : سمير عطا الله
في مايو (أيار) 1987 هبط شاب ألماني في التاسعة عشرة من العمر يدعى ماتياس روست، بطائرة سيسنا ذات محرك واحد، في الساحة الحمراء، قرب الكرملين. كان الطيار المراهق قد قطع مسافة 750 كيلومتراً فوق الاتحاد السوفياتي، الذي بنى أهم نظام دفاعي في العالم، من دون أن تلحظه الرادارات. شعر وزير الدفاع السوفياتي وجنرالاته بالإهانة. وحكم على المغامر الألماني بالسجن لمدة عام.
... وبدأت علامات الخوف على الاتحاد في الظهور. الدولة الكبرى لم تسقط أمام قوة خارجية. بالعكس. لقد ربحت الحرب العالمية الثانية، واكتسبت معنوياً الكثير من شعوب العالم. لكنها سقطت من الداخل. صدئ نظامها وفقد شعبها حماسه ويقظته. ونجح في حروب الواسطة التي خاضها، لكنه خسر حروب التكنولوجيا والزراعة والعلم والاقتصاد. عكّر الحياة على أنظمة كثيرة وأثار الفوضى في بلدان عدة، لكنه أفاق ذات يوم، ليشاهد مراهقاً ألمانياً يهبط في الساحة الحمراء وكأنه في فيلم ديزني.
تكرر إيران، فصلاً فصلاً، تاريخ نشوء وسقوط الاتحاد السوفياتي. مثله حملت آيديولوجيا تختفي وراءها. ومثله تشعل الحروب بالواسطة. ومثله تعكر حياة الشعوب. ومثله تتحدى وتهدد، بمناسبة وغير مناسبة، فيما يعنيها وفيما لا يعنيها. ومن فنزويلا إلى البحرين، ومن سوريا إلى باب المندب، تطل كل يوم بتهديد أو سفينة حربية أو صاروخ.
بدأت الثورة الإسلامية باحتلال السفارة الأميركية لأربعة وأربعين أسبوعاً. بلا أي مناسبة أو ذريعة. وطابت لها سياسة الرهائن. واليوم تهدد أميركا بأن بلدان الخليج رهائن في مرمى أسلحتها. الحرب المباشرة لا مكان لها في الاستراتيجية الإيرانية. تترك الآخرين يتحاربون ويحاربون وتكتفي بإرسال اللواء سليماني للصور التذكارية
لم أعد أذكر من هو الجنرال الذي رد على ترمب يوم الجمعة الماضي، بتهديد دول الخليج. يا مولانا، خليك على أميركا. قادمة ومعها قاذفات بي 52 التي تهبط من 15 ألف متر (وليس قدماً) في انحدار مستقيم. ومعها حاملات تدفعها قوة نووية قادرة على العمل 20 عاماً. وما هي مناسبة إثارة هذا الفيل الأميركي منذ 40 عاماً إلى اليوم؟ ولماذا خلخلة استقرار المنطقة والعالم؟ وإذا كانت إسرائيل حقاً هي المسألة، فما دخل باب المندب ودول الخليج واليمن وحلب؟
تكرار عجيب للمسيرة السوفياتية التي ظنت أن العالم مجرد لعبة بلا خسائر، لأنه يخاف الصراعات ويريد الهدوء والاستقرار. سياسة الرهائن قصيرة النظر. وكذلك الحروب بالواسطة. لكن الحرب مع الفيل الأميركي هذه المرة مباشرة وطاحنة. وماذا بقي من المنطقة في أي حال.