بقلم: سمير عطا الله
هناك ألف سبب للدّفاع عن الحضارة الحديثة، وهناك ألف سبب أو أكثر لتوجيه التّهم إليها. وسوف نظلّ منقسمين حولها أحياناً كفرقاء، وغالباً ضمن الذات الإنسانية نفسها. لقد وصلت الحداثة بنا إلى درجتين: واحدة لا غنى عنها، وأخرى لا تُطاق. الأولى هي طبعاً بديهيات الحياة كالتطوّر في الطب والعلاج والتنقّل والتصنيع وتخفيف عبء العمل والجهد على البشر، والثانية في أن هذا العالم الذي أصبح في حجم كرة زجاجية صغيرة، يوزّع في لحظة واحدة على جميع سكّان الأرض، توتّراً نفسياً مخيفاً بسبب ما يصل إلينا كل لحظة من أنباء الحروب والمجازر والكوارث والكراهيات وجنون الغرائز القاتلة.
كان الكاتب الكبير أحمد بهاء الدين يقول إنه شبّ في عصر الإذاعة التي رآها تطغى على حياة الناس، مرّة تفرّق بينهم ومرّة توحّدهم وتنقل إليهم الغناء والطرب والموسيقى والأعمال الفكرية، ثم أصبح في مرحلة التلفزيون الذي دخل البيوت ومعه تأثيراته المصوّرة والأكثر تأثيراً من الإذاعة. وقد توفّي ذلك المفكّر الرائع والعربي الناصع، قبل أن يطغى علينا هذا السحر غير المتخيّل، الذي انتقل إلى منازلنا وهواتفنا وسياراتنا ومطاعمنا ومدارسنا، تحت مسمّيات كثيرة، مثل «فيسبوك»، و«تويتر»، و«إنستغرام»، و«واتساب». فقد أصبح جزء كبير من حياتنا تحت رحمة مارك زوكربيرغ وآلاته السحرية، يوجّه المجتمعات كما يشاء، ويشعل الفتن، ويحدّد لنا معاني ثقافاتنا. وليس أدلّ على مدى طغيانه في مجتمعات العالم، أكثر من أنه أصبح أغنى رجل في العالم.
لقد أصبح قادة العصر مجموعة من السحرة الذين يملأون علينا ذرّات الكون، مليون ضعف أكثر من الإذاعات، وألف ضعف على الأقل من التلفزيون. فالمدخل إلى هذه الشبكات صار في متناول أبناء العاملين أو أكثر قليلاً. وسوف تجد ملايين البشر من دون سيارات، لكنك لن تجد، حتى في الأدغال، بشريّاً واحداً من دون هاتف جوّال. وقد أثار سفّاح نيوزيلندا أخلاقيات السحر الحديث، من جديد. ولم تنفع طبعاً اعتذارات زوكربيرغ، فلا خروج من هذه الدائرة الجهنّمية، إلا في نجاحات محدودة وجزئية. كما نقلت إلينا الإذاعات، عناصر التقدّم والتخلّف، وكما كان التلفزيون باباً للعلم وللجريمة في وقت واحد، هكذا نواجه الآن المحنة التي وضعها أمامنا العالم السيبراني. إنه يوفّر الدروس لأهل الغابات في أفريقيا، ويوفّر أساليب الجريمة المعلنة للسفّاحين ومرضى العقول في كل مكان. وقبل أن يصبح شيئاً قديماً وبعيداً مثل الإذاعة والتلفزيون، سوف يمزّق الكثير من الروابط البشرية لقاء حصولنا على ما يُسمّى بالتواصل الاجتماعي. صحيح أنه تواصل اجتماعي في معظم الأحيان، وصحيح أيضاً أنه يدمّر المجتمعات ويضعها أمام احتمالات الانهيار.