بقلم: سمير عطا الله
في روسيا ضجة لم يبقَ خارجها فلاديمير بوتين. هو أيضاً لا يرضى أن يكون سعر الملفوف (الكرنب) قد ارتفع 17 في المائة هذا العام. طبعاً أسعار الخضراوات الأخرى ارتفعت هي أيضاً، لكنني لا أدري ما هي خصوصية الملفوف عند الروس. في السبعينات، ذهب أمين معلوف إلى موسكو، وعاد يكتب، في جملة ملاحظاته، أن الروس يقفون في الطوابير في انتظار الحصول على ملفوفة. والطوابير، أو آدابها، أو فلسفتها، حضارة يفاخر بها الإنجليز؛ إنهم أكثر من يحترمها في العالم. لاحظ بأي هدوء يمارسون الانتظار أمام السينما، أو المسرح، أو الباعة.
لكن طابور الملفوف قضية أخرى. إننا نتحدث عن واقع اجتماعي له دلالات مزعجة. وإلا كيف لسيد الكرملين أن يتدخل في الأمر وأمامه مسؤوليات من نوع الحرب في سوريا أو أوكرانيا. في لا وعيه، يريد، على الأرجح، ألا يربط الناس بين طوابير الأمس التي أدت إلى سقوط النظام، وبين الدولة اليوم. إذا شاهدت فيلماً أميركياً (أو أوروبياً) عن الثلاثينات أو العشرينات، سوف ترى الكثير من مشاهد الطوابير، خصوصاً أمام مكاتب التوظيف. فقد كانت البطالة على مستوى كارثي في مدن مثل نيويورك. وقال أحد الكتّاب يومها: «لقد تحولنا جميعاً آنذاك إلى باعة تفاح؛ لم نكن نجد عملاً آخر سوى بيع التفاح على زوايا الشوارع، ولم يكن أحد منا يملك أن يأكل تلك الثمرة اللذيذة».
إذا كان الوضع متشابهاً في حقبة واحدة بين أميركا الرأسمالية وروسيا الشيوعية، فلماذا استمرت الأولى وانهارت الثانية؟ لم تتفق الدراسات على جواب واحد. والتبسيط لا يجوز في مثل هذا المتغير الهائل. ولكن الأقرب إلى المنطق أن الاستبداد وغياب الحريات وإلغاء المبادرة الفردية جعل شعباً عظيماً مثل الشعب الروسي يقف في الطوابير للحصول على ملفوفة، بينما خرج الأميركيون من كوارثهم الاقتصادية. وهو ما حصل أيضاً في أوروبا، بين شرقها وغربها، أمام ووراء ما سماه تشرشل الستار الحديدي. الشعوب التي تفقد الحرية والمحفز الفردي لا تنتج. والفارق اليوم أن الملفوف الروسي مرتفع الثمن، لكنه متوافر كالقمح.