بقلم: سمير عطا الله
خلال موجة «الربيع العربي»، سألت أمين معلوف عن المشروع الروائي الذي يشتغل عليه، فقال إن الأحداث تمنعه عن التفكير في أي شيء آخر. قلت له «ولكن لك خلوة خاصة في جزيرة نائية»، قال الأحداث الكبرى تقتحم أبعد الجزر.
في الماضي كنت دائماً أشعر بشيء من الذنب عندما أكتب في موضوع لبناني عادي لجريدة لها 14 طبعة حول العالم وقراء من سقطرى إلى سومطرة، فماذا يهم قارئاً في وسط أفريقيا أزمة حكومية في بيروت. لكن هذه المرة أشعر بالحرج كلما فكرت في الكتابة بموضوع آخر. الحدث اللبناني يشغل الناس في أبعد الجزر. وأنا منه على مسافة العين المجردة. والهتافات تدخل من النافذة. والناس أهلي. والبلد موطني.
أول شيء فعله الإنسان عندما خرج من الكهف وبنى منزلاً وموقداً ومقعداً من حجر، قرر أنه سوف يستقر هناك ولن يبقى عارياً في الريح والتيه. تشرق الشمس عليه وتغيب وتدور الأرض به وهو في مكانه. وعندما التقت مجموعات من الناس في دائرة واحدة سمتها وطناً. وأقامت له حدوداً. وابتكرت سند الملكية. وراحت الشعوب تتقاتل من أجل أوطانها وأرضها وبيوتها. ثم تطورت فابتكرت مسألة الحقوق والواجبات ضمن هذه البقع. ووضعت القوانين. وشرعت المساواة.
كان لبنان من أوائل البلدان التي عرفت القانون. وأقامت روما في بيروت أول كلية للقانون لا تزال حجارتها في وسط المدينة، مع أن أحد وزراء الثقافة جيَّر هذه البقعة التي لا مثيل لها في العالم، إلى مقاولين يفضلون الإسمنت على حجارة أول معهد للقانون في تاريخ البشرية.
هؤلاء الملايين الذين نزلوا إلى الساحات منذ 11 يوماً، يريدون شيئاً واحداً هو دولة القانون. دولة لا يستبيحها السماسرة والسارقون. هذا كل ما يطلبه هؤلاء الذين لم يبق لهم سوى الساحات والعراء بعد ثلاثين عاماً من التداعي والدلال ونهب أرزاق الناس. وجدت الدولة نفسها أخيراً في مواجهة الناس الذين ترفض أن تراهم، أو أن تسمعهم، أو أن تتذكر أن الكهرباء والبطالة والزبالة هي مسؤوليتها. لعل الدولة تنتبه إلى أن الملايين خرجوا يطالبون بوجودها وبقوتها وضمانتها. ليسوا ضد وجودها، بل ضد غيابها وإهمالها ولا مبالاتها وانعدام كبرائها.