بقلم - سمير عطا الله
أعتقد أن أكثر المواقف إحراجاً هي أمام الأصدقاء. إذا ما احتاج المرء شيئا يفكر أولاً في أصدقائه، لكنه في الوقت نفسه يتردد طويلاً لأسبابٍ كثيرة، منها أولاً خشيته من أن يأخذ الظنُّ بصديقه إلى فكرة الاستغلال. والظنُّ أكبر عدوٍ للصداقات، غالباً ما يُنهيها، عن حقٍّ أو باطل. أحياناً ثمة حالاتٍ لا بد فيها من امتحان الصمود في الصداقة وما هي الصداقة في أي حال؟ إنها مثل الشعائر شيءٌ نسبي يستحيل تعريفه، لأن الاختلاف بين البشر طبيعة إنسانية أولى.
ذهبت في باريس قبل فترة إلى عيادة صديقي الدكتور هاني كنعان، الذي لم أره منذ أربعين عاماً. كنت أعتقد أنه سوف أرى رجلاً تغيّرت ملامحه كما يفعل الزمن بالجميع، لكن يبدو أن العمر يمرُّ بالأطباء لفقط عند لون شعرهم. اختلطت الزيارة بالحديث الطبي والحديث الاجتماعي. وعرض كلٌّ منا بعض أخباره في العقود الأربعة، وأهمها طبعاً أخبار الأبناء. ولم يعد في العيادة طبيبٌ وزائر إذ طغى مناخ الصداقة على وظيفة المكان.
ثم حانت اللحظة الحرجة عندما وقفت شاكراً ومودعاً. حاولت أن أعرف بإصرار تكلفة الاستشارة. أصرَّ هو على الصداقة وأصررت أنا على المهنية. ولكي يحسم الجدل دعاني إلى قراءة لوحة معلقة خلف رأسه. هذه اللوحة تمثّل وصايا أبقراط، أب الفلسفة الطبيعية وفقه الحياة، وهي خمس أولها الصداقة، ثانيها الحرية، ثالثها التفكير، والباقي سمكٌ وأرزٌّ وما طاب من وظائف الحواس. لا جدال، إذاً، مع أبقراط ولا مع تلميذه. لكن لا شك أن الإغريقي اختار الصداقة في المقام الأول لأنها، كما قال مؤسس الحزب السوري القومي أنطون سعادة «تعزية الحياة». وكتب «نيوتن» في «المصري اليوم» أن تعزية الحياة خصوصاً بعد سنٍّ معينة هي «الصحبة»، وأن الوحدة أو العزلة صعبة على الذين يعانون منها. وأنا أميل إلى تعبير «الصحبة» لأنه أكثر سهولة من الصداقة. فشروط الصداقة التي وضعها أبقراط في أول الوصايا صعبة وامتحانٌ دائم في الحياة. والفشلُ أو الإخفاقُ فيها صعبٌ ومرير. ويرافق نهاية الصداقات عادة مشاعر لا تقلُ إيلاماً عن تلك التي ترافق الطلاق. شروط الصحبة أكثر ليونة وأقلُ متطلبات. وإذا ما طرأ عليها زوالٌ، فالمرارة أخف والندم المتبادل أقل قسوة على النفس. والدليل أن واحدنا يعرف على مدى السنين أعداداً كثيرة من الأصحاب، فلكل عمرٍ أصحابه، ولكل بلدٍ أصحابه أو رفاقه، بينما تبقى الصداقات عزيزة ونادرة في جميع المراحل، تنتقل معنا من مكانٍ إلى مكان ومن عمرٍ إلى عمر.
نقلا عن الشرق الاوسط
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع