بقلم - سمير عطا الله
هناك علاقة رهيبة بين الزعماء الآيديولوجيين وبين الخطب. لم أفهم أسبابها عندما كنت أتابع كلمات الديكتاتوريين الذين عشنا مراحلهم، ولا أعتقد أنني أفهم هذه الظاهرة الآن. عندما اقتنيت مجموعة خطب لينين في السبعينات، كانت تقع في أكثر من 200 مجلد. ماذا كان الفارق بين الأول والأخير والوسط؟ لست أدري. وقد قرأت خطباً كثيرة لنيكيتا خروشوف، لا أذكر منها، ولا أعتقد أن أحداً يذكر، سوى خطابه الأول والأكثر شهرة في المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي عام 1954، عندما قرر، في شجاعة خارقة، أن يفكك أسطورة سلفه ستالين.
تسنّى لي مرة أن أقتني نصوص الخطب الرئيسية التي ألقاها الدكتور فيدل كاسترو. وربما كان الزعيم الكوبي الأكثر إطالة في الخُطب عبر التاريخ، إذ كان معدل إلقائها من أربع إلى ست ساعات. ولا بد هنا من الإشادة، بشجاعة وصبر وقدرة الجماهير المصغية على التحمّل.
حيث إن أحداً لا يترك المكان من أجل حاجته أو أي اضطرار آخر.
لم تكن الخطب الطويلة سمة ديكتاتوريي اليسار فقط، فاليمين كان أعلى صوتاً وأكثر إيماءاتٍ، وأحياناً، مسرحيات. تعلَّم هتلر كيف يأسر الجماهير الألمانية والنمساوية طوال ساعات، رغم أنها شعوب عملٍ وكدِّ وصناعة، لا شعوب ثرثرة مقاهٍ. وكان الإيطاليون يطربون لموسيليني، ويتمنون أن تستمر خطبه دون انتهاء. وإذا حاولت اليوم أن تعيد قراءة تلك النصوص، وجدت شبهاً مذهلاً في رتابتها وشعاراتها وألفاظها وتعابيرها. في الكثير منها، ما عليك سوى أن تغيّر اسم المكان، أو تاريخ الخطاب. ولست أقول ذلك مازحاً أو مبالغاً، لكن المكان يضيق هنا في إثبات المقارنات.
حاول أطباء النفس على مرّ العقود، تحليل هذه الظاهرة، وأعطوها، على طريقتهم، أسباباً كثيرة ومختلفة، منها العلاقة مع الأم أو الأب، ومنها المنشأ أو البيئة، ومنها عقدٌ جسدية. لكن أحداً لم يشرح ظاهرة «المونولوغ»، أي مخاطبة النفس طوال هذا الوقت. ويروي إيناسيو رامونيه، الذي كتب سيرة كاسترو، وكان أقرب الصحافيين العالميين إليه، أنه كان يحدّثه ذات يوم في روايات المؤلف الأميركي إرنست همنغواي، واتخذ النقاش معظم أعمال حامل نوبل. سأله رامونيه ما الذي يعجبه في همنغواي أكثر من غيره: هل هي جمله القصيرة؟ هل هي شجاعته في الحروب؟ هل هي مشاركته في الحرب الأهلية الإسبانية؟ لا شيء من كل هذا. أجاب كاسترو: «لقد قرأت معظم رواياته أكثر من مرة، خصوصاً (لمن تُقرع الأجراس)، و(وداعاً للسلاح)، وفي هاتين الروايتين يجعل البطل يتحدث دائماً إلى نفسه. هذا ما أحبه في همنغواي. المونولوغات الطويلة، عندما يتحدث الأبطال إلى أنفسهم».
نقلا عن الشرق الاوسط اللندنية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع