بقلم - سمير عطا الله
كان عبد الرحيم البيساني من كبار الأئمة والكتاب. وبسبب معارفه وبلاغته وذاكرته الخطيرة جعله صلاح الدين الأيوبي وزيراً له يستشيره في كلِ مقامٍ أو مقال، إلى أن قال ذات يوم: «لا تظن أني فتحت البلاد بالعساكر، إنما فتحتها بقلم القاضي الفاضل». دخل البيساني التاريخ تحت لقب القاضي الفاضل. وسوف تمضي قرون كثيرة قبل أن يولد لفلسطين لغوي في مثل طاقاته وقدراته.
توفي الأستاذ حسن الكرمي عام 2007 عن 104 أعوام. لكن صوته الرخيم لا يزال يأتي من إذاعة الـ«بي بي سي»، قارئاً على الملأ العربي الأوسع شيئاً من ذهب التراث، وماس الشعر، وحسن الحكم، وجمال المواقف، ونبل المكارم، ونصاعة النوايا. كانت المقاهي تفرغ والشوارع تخلو عندما يحين موعد برنامجه «قولٌ على قول». هكذا كان يحدث أيضاً في الخميس الأول من كل شهر عندما تؤدي أم كلثوم حفلتها. وقد انقسم الجمهور العربي أو اجتمع خلف نشوة اللغة مغناة بحنجرة كوكب الشرق أو مقروءة بشلالات حسن الكرمي الذي حبب ملايين العامة من العرب في كل مكان بدُرَر التراث.
كان في حد ذاته مجمعاً لغوياً من مجامع الخالدين وإن يكن لم ينسب إلى الكثير من المجامع العربية، غيرة أو جهلاً أو خوفاً من أن يطغى اسمه وسمعته على سائر المجتهدين وكل الموسوعيين.
أمضى حسن الكرمي حياته في لندن يجلس على كرسي واحد لم يغيره طوال سبعة عقود. وفي سكينة لندن، تراكمت الكتب والمراجع من حوله. وتكاثر وتعدد المعجبون به وكان في طليعة هؤلاء الملوك والرؤساء ووجهاء العرب إضافة إلى فقرائهم. وقد ربطته صداقة بالعاهل المغربي محمد الخامس، ثم بالحسن الثاني الذي كان مولعاً بعبقرية اللغة العربية. وربطته صداقة بالملك فيصل بن عبد العزيز، وبالشيخ زايد، وبالرئيس عبد الناصر. وقد حاول الرئيس المصري إقناعه بنقل برنامجه إلى إذاعة القاهرة قائلا إنه لا يجوز أن يكون أهم برنامج لغوي مذاعاً من إذاعة أجنبية. غير أن الكرمي اعتذر من جميع العروض، مفضلاً صومعته التي صارت في حجم مكتبة وطنية.
كان يتألم من بعيد لأحوال العرب وانحدار الأمة نحو المهالك.
ثار الكثير من الجدل حول أشهر الرواد عند العرب الذي عُرف بحمّاد الراوية الذي حفظ «السبع الطوال». لا ندري كم معلقة أو قصيدة أو حكمة أو طرفة حفظ حسن الكرمي، وقد أذاعها جميعاً علينا، حلقات لم يبلغها أحد سواه.
نقلا عن الشرق الاوسط اللندنية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع