بقلم - محمد سلماوي
كم تباعدت الدول العربية عن بعضها البعض عبر السنوات الأخيرة بما شهدته من اضطرابات وخلافات، ولا أقصد أننا تباعدنا سياسيا فقط، وإنما تمكنا أيضا من أن نتباعد جغرافيا، حيث رسخنا الحدود الفاصلة بين كل دولة عربية وأخرى فاتسعت المسافات بيننا بأكثر من كيلومتراتها، هذا هو الخاطر الذى ظل يلح علىّ طوال رحلة أخيرة أمضيت الكثير من ساعاتها على الحدود بين سوريا ولبنان، فقد عدت لتوى من دمشق حيث كنت أحضر اجتماع اتحاد الكتاب العرب لأتسلم جائزة القدس التى منحنى إياها الاتحاد عن مجمل أعمالى الأدبية والتى كان للقضية الفلسطينية موقع مركزي فيها، ونظرا لعدم وجود خطوط طيران تصل إلى دمشق غير شركة الطيران السورية التى لا تطير الى القاهرة إلا يوما واحدا فى الأسبوع فقد قررت السفر إلى بيروت ومنها بالسيارة إلى دمشق، اعتمادا على ما أذكره من وقت كنا نتواصل بين العاصمتين عبر نحو 110 كيلومترات كثيرا ما قطعناها بالسيارة فيما لا يزيد كثيرا على الساعة، فكنا مثلا فى أثناء حضور مهرجان المسرح فى دمشق نذهب لتناول الغداء أو العشاء فى شتورة بلبنان أو فى عاليه بمطاعمهما الشهيرة وتاريخهما الذى جمع كل أهل الفن والثقافة عبر السنين، أو كنا نذهب من بيروت لتناول بوظة بكداش من سوق الحميدية بدمشق والعودة فى نفس اليوم، فبيروت ودمشق هما أقرب عاصمتين عربيتين بإستثناء المنامة والدوحة اللتين لم تعد تربط بينهما أي اتصالات بعد قطع العلاقات مع قطر، لكنى فوجئت هذه المرة بأن ساعة الزمن التى كانت تفصل بين العاصمتين العربيتين قد استطالت لتصل الى ثلاث ساعات من بيروت لدمشق، لم أتوقف خلالها إلا لدقائق معدودة عند بر إلياس بسهل البقاع حين طلبت من السائق أن ألقى نظرة على تلك المخيمات القبيحة التى تؤوى اللاجئين السوريين الذين نزحوا الى لبنان هربا من ويلات الحرب التى فرضت على سوريا والتى كانت تهدف لتحطيم البنية الأساسية للدولة السورية كما حطمتها فى العراق من قبلها، وفى ليبيا من بعدها. كانت الخيام بيضاء حزينة، أليس اللون الأبيض فى بعض الدول هو لون الحداد، وكم من أحزان تؤويها تلك المخيمات التى هى إحدى الشواهد على ما آل إليه حال العرب. لم تكن هناك ثلوج على الطريق كما كان ينتظر فى مثل هذا الوقت من السنة وإلا لطالت الرحلة لأكثر من ذلك، فقد ضنت الطبيعة على المنطقة كلها من سوريا إلى لبنان والأردن فلم يهطل المطر هذا العام ولا نزلت الثلوج، لكن الإجراءات الأمنية بين الدول الثلاث كانت على حالها لم تتغير، بل ربما زادت تعقيدا، وقد كان فيلم الحدود لفنان سوريا العظيم دريد لحام حاضرا معى طوال خضوعى لبعض الإجراءات الأمنية والكثير من الإجراءات البيروقراطية، أولا عند الحدود اللبنانية التى اجتزناها أخيرا ببطء شديد بعد نحو الساعة ونصف الساعة، ثم عبر الحدود السورية فى ذات المدة وبنفس البطء، وكنت قد حصلت على تأشيرة دخول لبنان لدى وصولى الى مطار بيروت، ومعى صورة من تأشيرة الدخول لسوريا والتى كانت تنتظرنى على الحدود البرية السورية، فتصورت أن معى المفاتيح السرية التى ستفتح لى كل الحدود الموصدة.
بعد أن اكتشفت أن المسافة الفعلية بين بيروت ودمشق أصبحت الآن ثلاث ساعات، قررت أن آخذ هذا فى الاعتبار فى طريق عودتى إلى بيروت بعد انتهاء زيارتى دمشق، وهكذا أعددت العدة كى أصل من دمشق لبيروت فى الصباح، وقبلت الدعوة لإجراء مقابلة تليفزيونية فى العاصمة اللبنانية حول كتاب مذكراتى الذى صدر حديثا باسم »يوما أو بعض يوم«، قبل أن أتوجه للمطار فى المساء لأستقل الطائرة الى القاهرة، لكن تقدرون فتضحك الأقدار، فقد استغرق طريق العودة من دمشق الى بيروت خمس ساعات بدلا من ثلاثة، فبعد أن إجتزت الحدود السورية بسلام فى الوقت المقدر وهو نحو الساعة ونصف الساعة، فوجئت بأن الدخول مرة ثانية الى لبنان ليس بسهولة المرة الأولى، وقد أوضحت لضابط الجوازات أننى سبق أن حصلت فى مطار بيروت على تأشيرة تسمح لى بالخروج والدخول طوال 15 يوما، فقال لى إن الإجراءات تقضى بأن يبعث إلى سلطات الأمن فى مطار بيروت ليستعلم عن صحة التأشيرة، فسألته كم سيستغرق ذلك قال لى بأدب أن أعود إليه بعد ساعة أو ساعتين، فعدت إلى السيارة لأحتمى بها من البرد القارس الذى لفحنى أعالى الجبال التى تقع بها نقاط الحدود، وبعد مرور أكثر قليلا من الساعة عدت أدراجى أقف فى طابور الانتظار لأستعلم عما إذا كان الرد المنتظر قد ورد من مطار بيروت. كان هناك طابور واحد مخصص لكل الجنسيات، من لبنانيين وعرب وأجانب، وطابور آخر للفلسطينيين وحدهم، ثم ثلاثة طوابير مخصصة للسوريين، وفى أحد الطوابير السورية وقعت مشادة عطلت تقدم كل الطوابير حين اتجه ضباط الأمن من الطوابير الأخرى إلى الطابور السورى لحل المشكلة، ذلك أن أحد السوريين اتهم ضابط الجوازات اللبنانى بأنه سجله فى الأوراق بوصفه لاجئا بينما هو على حد قوله سائح يحمل معه الألفى دولار المطلوبة لدخول لبنان، وحسبما شرح لى بعض الاخوة السوريين الواقفين فى الطابور فالمشكلة تكمن فى أن لدى السوريون اقتناعا بأن السلطات اللبنانية تسجل كل سورى يدخل لبنان على إنه لاجئ كى تزيد حصة لبنان من المعونة التى تتلقاها من الجهات الدولية لإيواء اللاجئين السوريين والتى يقول الواقفون فى الطابور إنها تبلغ أربعة مليارات دولار سنويا بينما الكوبونات التى تعطيها السلطات اللبنانية للاجئين السوريين لا تكفى لأكلهم أكثر من ثلاثة أيام أو أربعة فى الشهر. وقد تكون تلك البيانات والأرقام صحيحة أو غير صحيحة، لكنى نقلتها كما هى لأن ما يهم هنا هو ذلك الخلاف وانعدام الثقة بين الجانبين بصرف النظر عن صحة الأرقام أو عدم صحتها، فهذا الخلاف هو أحد العوامل التى تزيد من الهوة الفاصلة بين شعبى البلدين وتزيد من المسافة التى أصبحت تفصل بين البلاد العربية بما فى ذلك الدول المجاورة لبعضها البعض والتى كنا قبل سنوات قليلة نقطع المسافة بينها فى ساعة لنتناول الغذاء فى أحد مطاعمها ثم نعود فى نفس اليوم، فسبحان مغير الأحوال.
نقلا عن الاهرام القاهريه