بقلم : محمد سلماوي
من بين الكتب التى عدت بها من زيارتى الأخيرة لباريس فى الشهر الماضى رواية مثيرة صدرت حديثا بعنوان «إنهم سيقتلون روبرت كيندى» Ils vont tuer Robert Kennedy لكاتب متخصص فى التنقيب فى الأحداث التاريخية والخروج بنتائج جديدة موثقة بدقة، هو Marc Dugain، وقد انتهيت من قراءة الرواية مع اقتراب الذكرى المئوية لميلاد جمال عبد الناصر، فكان الربط الذى لم أكن أتوقعه وربما لم يدركه الروائى الفرنسى، بين الزعيم العربى الراحل والنتائج التى توصل إليها فى روايته.
تقوم الرواية على فكرة أن مقتل روبرت كيندى عام 1968 كان استكمالا لمقتل شقيقه الأكبر جون كيندى الذى أغتيل قبله بخمس سنوات، وأن الحادثتين اللتين تمتا تنفيذا لمخطط محكم، لم تكشف حقائقهما ولا عرف الفاعل الحقيقى لأى منهما، فلا لى هارفى أوزوالد هو الذى قتل جون كيندى، ولا سرحان بشارة سرحان هو الذى قتل روبرت كيندى، ودليل دوجان على ذلك هو أن الرئيس الأمريكى قتل برصاصة جاءته من الأمام أثناء تحيته للجماهير فى سيارة مكشوفة بمدينة دالاس، بينما كان لى هارفى أوزوالد وقت وقوع الحادث خلف موكب الرئيس، والعكس بالضبط هو ما حدث فى حالة شقيقه الأصغر روبرت كيندى الذى قتل فى لاس فيجاس برصاصة استقرت فى عنقه من الخلف، بينما المعروف أن سرحان بشارة سرحان الفلسطينى الأصل المتهم باغتياله واجهه من الأمام، وفى الحالتين تم بعد ذلك الإجهاز على المتهمين تفاديا لأية تحقيقات مع أى منهما، وكان الهدف فى الحالتين هو القضاء على الاتجاه السياسى الذى كان يمثله الرئيس جون كيندى وحمل لواءه من بعده شقيقه الأصغر روبرت، الذى كان وقت اغتياله قاب قوسين من الوصول لمقعد الرئاسة. كان الرئيس كيندى يمثل اتجاها جديدا فى السياسة الأمريكية فى مواجهة الاتجاه الانعزالى المحافظ الذى يمثله الحزب الجمهورى، بل كان اتجاهه أكثر تقدما وانفتاحا عن مواقف حزبه الديمقراطى ذاته، وربما كانت واقعة الصواريخ الشهيرة الخاصة بالمواجهة النووية مع الاتحاد السوفيتى فى كوبا هى خير مثال على حكمة الرئيس كيندى واستعداده للتفاهم مع الاتحاد السوفيتى، وهو العدو التقليدى لليمين الأمريكى المتطرف، ويشرح دوجان فى الرواية كيف استفاد معسكر حرب فيتنام استفادة كبيرة من تغييب كيندى الذى كان يسعى لإنهاء الحرب بعكس موقف جماعات الضغط السياسى الأمريكية المرتبطة بصناعة السلاح.
وقد اطلعت أخيرا على نص المراسلات المهمة التى جرت لأول مرة بشكل متصل بين جون كيندى والرئيس جمال عبد الناصر بمبادرة من كينيدى نفسه، فوجدت فيها رغبة واضحة من الرئيس الأمريكى للتقارب مع الجانب العربى، ومحاولة صادقة لتفهم وجهة نظره فى الصراع العربى الإسرائيلى، والتى لفت عبد الناصر نظر الرئيس الأمريكى غير مرة خلالها، الى أن القضية الفلسطينية هى منشأ هذا الصراع، مؤكدا على حقائقها الأساسية التى طالما تجاهلتها السياسة الخارجية الأمريكية لاعتبارات انتخابية داخلية لم يتحرج عبد الناصر من ذكرها لكيندى.
وكان الأستاذ محمد حسنين هيكل هو أول من أشار لهذه المراسلات ونشر بالفعل فى أحد مقالاته رسالتين أو ثلاثامنها، لكنى اكتشفت أن عدد الرسائل المتبادلة بين عبد الناصر وكيندى يزيد على عشر رسائل، بالإضافة لرسائل أخرى كان كيندى يطلب فيها رأى الرئيس المصرى فى بعض قضايا العالم الثالث الأخرى ومنها قضايا التحرر والاستقلال وخاصة قضية الكونغو.
وفى عام 1963 الذى قتل فيه كيندى كانت درجة التفاهم بين الرئيسين قد وصلت الى حد يكاد يكون غير مسبوق فى تاريخ العلاقة بين البلدين، وفى خطاب بتاريخ 16 أغسطس من ذلك العام كتب كيندى لعبد الناصر:
وحيث إن العلاقات بين بلدينا قامت على أساس من التعاون المثمر والتفاهم المتبادل، فإننى أعتقد أننا قد وصلنا إلى توافق على أن المشكلات التى تنشأ بيننا يمكن دائما مناقشتها بالكامل وبصراحة، وبهدوء وثقة. وأنا أتفق معكم على أن أسباب الخلافات ستبقى دائما بيننا بسبب ظروف كل منا أو تحت ضغط من القوى الأخرى، ولكن التفاهم المتبادل سوف يبقى تلك الخلافات ضمن حدود لا ينبغى تجاوزها.
ومن هذا المنطلق وفى إطار هذا التفاهم، سيدى الرئيس، طلبت من السفير بادو أن يناقش معكم بعض المسائل ذات الأهمية بالنسبة لكلينا على حد سواء. وأنا واثق أنكم، ومن خلال تأملاتكم، سوف تجدون أن هذه المسائل، على الرغم من صعوبتها، تقع فى نطاق الحدود التى لا ينبغى تجاوزها.
(...) لقد علمت أن الدكتور القيسونى يخطط لزيارة الولايات المتحدة مرة أخرى فى شهر سبتمبر المقبل. وأقول لكم إنه سيلقى كل ترحيب، وسوف يكون من دواعى سرور وزير الخارجية استقباله، وسوف يسعى بكل ما فى وسعه لتيسير مهمته هنا. ولقد تابعت بإعجاب شديد إدارته الماهرة، فى ظل توجيهكم المحنك كرجل دولة، للمؤتمر الذى عقد مؤخرا فى القاهرة، والذى توصل إلى نتائج رصينة وتطلعات إلى آفاق مستقبلية.
وإننى أتطلع الى الاتصال بكم فى القريب، وعندئذ أريد أن أستعرض معكم بعض الأحداث والتحركات على الساحة العالمية، وأتناول كذلك تطور العلاقات بين بلدينا على نفس المنهاج الصريح والودى الذى ميز تبادل وجهات النظر بيننا فى الآونة الأخيرة. وفى الوقت نفسه، أتمنى لكم دوام التوفيق والنجاح فى جهودكم العظيمة الرامية إلى تعزيز المصالح السياسية والرخاء الاقتصادى والاجتماعى لشعبكم.
ولا شك أن هناك فى الولايات المتحدة بعض الدوائر السياسية التى يقلقها كثيرا ويقض مضجعها مثل هذا التقارب الأمريكى العربى، وهو ما يؤكد أن المستفيد من إنهاء تلك السياسة لم يكن فقط لوبى حرب فيتنام، وإنما اللوبى الصهيونى أيضا والذى استفاد كثيرا من وجود رئيس له توجهات مختلفة هو ليندون جونسون أثناء حرب يونيو 1967، وذلك لم يكن ليحدث لولا اغتيال كيندى، ثم اغتيال شقيقه روبرت وزير العدل فى حكومته ووريث سياساته المتقدمة التى وعد فى خطاباته باستكمالها حال فوزه فى الانتخابات الرئاسية، لذا كان لابد من اغتياله كما اغتيل شقيقه، تنفيذا للمخطط الذى كشف عنه مارك دوجان فى روايته.
نقلا عن الاهرام القاهرية