هناك أوضاع لابد أن تتغير فورا، إذا أردنا السير فعلا بعملية الإصلاح الاقتصادى إلى نهايتها الطبيعية.
هل يعقل أن تكون هناك شركات عامة، أو يشارك فيها المال العام تخسر سنويا الملايين وربما المليارات فى حين يقوم بعض أعضاء مجالس إدارتها، بالحصول على بدل حضور جلسات، قد يصل إلى خمسة أو عشرة آلاف دولار فى المرة الواحدة؟!
لم أكن أتخيل أن هذا يحدث فى بلد يعانى من مشاكل طاحنة، ويطلب من الشعب أن يتقشف وأن يتجرع الدواء المر من أجل الإصلاح!
قبل اسابيع كنت برفقة مجموعة من المهتمين بالشأن العام، نتحدث مع احد الوزراء السابقين، وتطرق الحديث إلى عملية الإصلاح الاقتصادى وضرورة إصلاح القطاع العام.
هناك مأساة اسمها «الشركات المشتركة» أى التى يساهم فيها القطاع العام بحصص مختلفة مع شركات خاصة أو أجنبية.
فكرة هذه الشركات حينما نشأت كانت، مقبولة، وهى ضخ المزيد من الدماء المالية الخارجية فى شرايين القطاع العام المتكلسة والمتيبسة. لكن للأسف فإن بعض النماذج أدت إلى العكس تماما، بحيث تحولت إلى وسيلة لاستنزاف المال العام.
شركة قطاع عام كانت شهيرة جدا فى الخمسينيات والستينيات والسبعينيات من القرن الماضى، وأدت أدوارا وطنية مهمة، لها فرع فى باريس فى إطار هذه الشركات المشتركة، ومن يسافر ليحضر اجتماعات العاصمة الفرنسية يركب درجة رجال الأعمال فى الطائرة، وينزل فى فندق، ويحصل على ١٥٠٠ يورو بدلا حضور الجلسة، إضافة إلى بدل سفر.
شركة أخرى مشتركة تعمل فى الملاحة خسائرها نحو ٤٥٠ مليون دولار.
أحد الزملاء الصحفيين المتخصصين، قال إن بدل حضور جلسة مجلس إدارة هذه الشركة يصل إلى عشرة آلاف دولار.
لكن أحد الجالسين وهو قريب من هذا الملف، قال إن هذا الرقم مبالغ فيه، وأنه لا يزيد عن ألفى دولار.
والسؤال هو: سوف نفترض أن البدل هو ألف دولار فقط، فهل يجوز ذلك فى بلد نحو ٣٠٪ من سكانه تحت خط الفقر؟!
أنا من المؤمنين بأن يحصل كل متميز ومبدع على أعلى أجر متاح، طالما أنه يعمل فى القطاع الخاص. وبالتالى فمن حق المدير التنفيذى فى البنك الاستثمارى، أو المذيعة فى الفضائية الخاصة، أو لاعب الكرة المحترف، أن يحصل على مليار دولار فى الموسم أو حتى تريليون «نظريا طبعا»، طالما أن المسألة عرض وطلب، وأن هذا النجم أو المبدع أو الموهبة الاستثنائية سوف تعوض هذه المبالغ بعائدات أكبر، عبر الارباح أو الاعلانات أو بيع التذاكر.
الأمر مختلف فى القطاع العام. فالعمل فيه تكليف إلى حد كبير، وهو يفترض أن يكون مدرسة لتخريج الكوادر فى جميع المجالات، وبالطبع هناك اهمية ومنطقية لوجود فوارق فى الدرجات والمرتبات، حتى يمكن مكافأة المبدع.
فلا يمكن مثلا أن أساوى بين راتب رئيس البنك الذى يتخذ قرارات استراتيجية تحقق المليارات من صناديق الاستثمار، وبين الصراف الذى يمكن أن يؤدى وظيفته أى شخص عادى!
إذا كنا جادين فعلا فى عملية الإصلاح الشاملة، فهناك أوضاع لابد أن تتغير فورا، ومن بينها، ما يحدث فى بعض شركات قطاع الأعمال والشركات المشتركة. وللموضوعية فإن هذه المأساة ليست وليدة اليوم، لكنها ناتجة عن حكومات متعاقبة منذ عشرات السنين.
لمن يتابع الملف فإن هناك ثغرات تشريعية، وقانونية تتيح لبعض الحالات أن يستمر رئيسا لمجلس إدارة الشركة، حتى لو بلغ من العمر ٩٢ عاما ــ وكانت هناك حالة فعلا بهذا الوصف ــ طالما أن الجمعية العمومية اختارته.
وكما نعلم جميعا فإن هناك البعض ممن يملك مهارات التربيط والتشبيك جيدا ويختار شلة متماسكة، ويمكنه أن يستمر رئيسا مدى الحياة.
لا أعترض على هذا المبدأ الديمقراطى، شرط أن تحقق الشركة أرباحا، لكن أن تستمر الخسارة دائما، فى حين أن الكاسب الوحيد هو مجلس إدارة الشركة فقط، فهذا أمر يصعب تفهمه!
سمعت أن هناك نية لتعديل القانون ٢٠٣ الذى ينظم شئون شركات قطاع الأعمال.. مثل هذه النوعية من القطاع العام لا يمكن الدفاع عنها، وحان وقت وقف النزيف المستمر فى العديد من الشركات الخاسرة واصلاحها، وطرحها فى البورصة، وإدارتها بطريقة اقتصادية. كان يفترض أنها أداة للعدالة الاجتماعية، لكنها تحولت إلى وسيلة لعقاب الفقراء ومجاملة قلة فى مجالس الإدارة.
نقلًا عن الشروق القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع