أتفهم تماما وجود قانون يلزم وسائل الإعلام المختلفة ألا تنشر بيانات أو أرقاما أو معلومات عن عمليات عسكرية، إلا بناء على البيانات الرسمية الصادرة عن المتحدث الرسمى للقوات المسلحة. لكن أن تتوسع كل الهيئات والوزارات العادية فى تقليد القوات المسلحة، فى ذلك فهو أمر سيؤدى حال تنفيذه إلى قتل كامل لمهنة الصحافة والإعلام.
فى البلدان التى تعيش أوضاعا طبيعية يمكن لوسائل الإعلام نشر أى بيان أو معلومات فى أى وقت، طالما أن القانون يعطيها الحق فى ذلك. لكن استمرار العنف والإرهاب والعمليات الإرهابية يعطل هذه الحياة الطبيعية للاسف الشديد.
نتذكر أن هذه المادة ٣٥ من قانون الإرهاب، جاءت فكرتها أساسا، حينما اجتهدت بعض وسائل الإعلام، ونقلت أرقاما غير دقيقة حينا وغير صحيحة أحيانا، لعدد الضحايا الذين سقطوا جراء محاولة تنظيم داعش الإرهابى السيطرة على مدينة الشيخ زويد فى أول يوليو ٢٠١٥. النشر العشوائى يومها صب فى مصلحة الإرهابيين، وصور الأمر، وكأنهم نجحوا فعلا فى إقامة دويلة أو جيب يرفعون عليه علمهم الأسود.
مرة أخرى نتفهم ذلك بالنسبة للقوات المسلحة، فى هذا الظرف الصعب والمؤقت، والذى يفترض أن يتغير مع عودة الحياة إلى كامل طبيعتها إن شاء الله فى أقرب وقت. لكن كيف يمكن تفهم ذلك مع محاولات بعض الوزارات والهيئات، أن تحصل على نفس المعاملة، وتعتقد ان هذا هو الامر الطبيعى؟!.
فى الأيام الماضية نشرت «الشروق» قصصا صحفية عادية جدا تتحدث عن قرب حدوث تطورات معينة فى ملفات شديدة التقليدية ببعض الوزارات. لكن فوجئت أن بعض المسئولين غاضبون جدا من هذا النشر، ويريدون أن نتوقف عنه حتى يصدر بيان رسمى من هذه الوزارة أو تلك الهيئة!
لنفترض مثلا أن صحيفة ما نشرت خبرا يقول أن الوزارة «س» تدرس التعاقد مع المؤسسة أو الشركة أو المجموعة «ص»، من أجل أن تنجز لها بعض المهمات. فما الذى يسىء للوزارة أو الهيئة أو المصلحة أو المؤسسة؟!
تزيد الحيرة كثيرا إذا كانت الصحيفة متأكدة تماما أن الخبر صحيح مليون فى المائة. علما ان من حق الوزارة أو الهيئة ان تنفى ذلك او تصححه.
تعالوا نفكر بالطريقة التى تفكر بها بعض الوزارات أو الهيئات، وسوف نفترض أن الصحف استجابت لرغباتها، وانتظرت البيانات الرسمية التى تصلها..
فما الذى سيحدث فى هذه الحالة؟!. باختصار شديد ستتحول كل الصحف والفضائيات والمواقع الإلكترونية إلى مجرد نشرات صفراء متشابهة فى المحتوى، وليس فيها إلا البيانات الرسمية المعلنة أو المتشابهة؟!.
ما الذى سيضر وزارة التعليم لو قلنا إنها تنوى تطوير المناهج فى المرحلة المقبلة، أو أن وزارة النقل تنوى تطوير المزلقانات، أو رفع أسعار التذاكر لتغطية الخسائر، وماذا سيحدث إذا قلنا إن وزارة التخطيط تبحث أفكارا مختلفة للتخلص من العمالة الزائدة أو تنظيم ساعات العمل فى الجهاز الادارى، أو أن وزارة الزراعة سوف تتشدد فى معاقبة المعتدين على الأراضى الزراعية، أو أن وزارة المالية منهمكة فى البحث عن وسائل حديثة لتحصيل الضرائب وزيادتها، أو أن وزارة السياحة قد تتعاقد مع شركة جديدة للترويج لمصر سياحيا؟!.
كل ما سبق أخبار شديدة التقليدية، خصوصا أن بعضها أو معظمها يندرج تحت الفعل «تدرس» أو «تبحث» أو «تخطط» أى إنها ليست قرارات نهائية، بل مجرد أفكار تمت مناقشتها بالفعل، وقد تتحول لإجراءات أو تظل مجرد أفكار!.
إذا أصرت كل وزارة أو هيئة عامة أو خاصة على أن يقتصر عمل وسائل الإعلام على نشر البيانات الرسمية فقط، فإننى ألفت نظرهم إلى أن الناس فى هذه الحالة ستتوقف تماما عن قراءة أو مشاهدة هذه الوسائل فورا، وبالتالى فإن الخاسر فى هذه الحالة لن تكون وسائل الإعلام فقط، بل الوزارات والحكومة والمجتمع بأكمله، لأن الجمهور وقتها سوف يبحث عن وسيلة أكثر تنوعا وأكثر جذبا.. والسؤال: هل هذه ما نريده؟!
سيقول البعض: «هذا أفضل من أجل الامن والاستقرار؟»، لكن نسأل أنصار هذا الرأى: إذا فقدت الصحف والفضائيات جمهورها وتأثيرها، فكيف ستصلون للرأى العام كى يتلقى رسائلكم المختلفة؟!!.
نقلًا عن الشروق القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع