الفترات الانتقالية هى الأصعب على الإطلاق فى حياة الشعوب، وبالتالى نتمنى أن يتجاوز الشعب السودانى الشقيق، هذه الأيام الصعبة جدا، حتى ينطلق إلى الأمام لبناء دولة ديمقراطية مدنية حديثة.
تقول لنا تجارب التاريخ القريب والبعيد: إن إزاحة رأس النظام، مثلما حدث مع عمر البشير فى ١١ أبريل الماضى، كانت هى أسهل مرحلة، أما الأصعب فهى مواجهة التحديات الكثيرة المتراكمة منذ عشرات السنين والتغلب على المشاكل الاقتصادية والاجتماعية، وإصلاح التعليم والصحة، والأهم ارتفاع الوعى العام بالقضايا الحقيقية للمجتمع، وليست «القضايا المصنوعة».
هل هناك وصفة سهلة ومحددة يمكن اتباعها حتى تنجح الثورة فى السودان؟! الإجابة للأسف هى لا، وكل الخيارات تتضمن تعقيدات ومشاكل لا حصر لها، والسبب أننا نتحدث عن تراكم أزمات واختناقات متراكمة منذ عشرات السنين.
السطور التالية ليست رؤيتى فقط، ولكنها حصيلة مناقشة تليفونية مطولة مع الصديق والكاتب الصحفى والمحلل السياسى السودانى البارز عثمان ميرغنى، مدير تحرير جريدة الشرق الأوسط اللندنية السابق، وليس عثمان ميرغنى القيادى فى جماعة الإخوان.
طرحت كل مخاوفى وهواجسى على ميرغنى، فقدم لى رؤية مهمة ينبغى التفكر فيها ودراستها جيدا. هو يرى أن المسيطر على الحراك الشعبى شباب ونشطاء أقرب إلى اليسار. أما القوى المسماة إسلامية فقد تشرذمت، ولها أكثر من عشر واجهات، وهم يحاولون إعادة إنتاج نسخة جديدة من النظام. هذه التنظيمات الإسلامية أدخلوا شبابهم فى معظم قوى الحراك والتيارات السياسية، ويصرخون ويهتفون كل يوم بشعار «لا نريد إقصاء، إلا عبر صناديق الانتخاب»، كما كان يفعل عندنا رموز الحزب الوطنى بعد 25 يناير 2011، ورموز الإخوان بعد 30 يونية 2013. وأبرز الأمثلة على هؤلاء النشطاء والشباب المحسوبين على المؤتمر الشعبى التقليديين الذى كان يترأسه حسن الترابى، وجناح غازى صلاح الدين، ومجموعة عثمان ميرغنى الإخوانية.
هؤلاء ــ وهى وجهة نظرى ــ سوف يحاولون بكل الطرق عرقلة أى تفاهم حقيقى بين قوى التغيير والمجلس العسكرى وصولا إلى حل وسط، ليس من مصلحتهم أن يتم هذا التفاهم، ووسائل إعلامهم خصوصا الإقليمية، تحاول دق الأسافين دائما بين الجانبين حتى لا تكتمل الثورة، لأنها لو اكتملت ستقضى على نفوذهم او على الأقل تقلصه.
أعود مرة أخرى إلى تقدير الباحث السياسى عثمان ميرغنى، الذى يراهن على بروز قوة سياسية جديدة تحظى بإجماع المواطنين الذين قادوا الحراك الشعبى مستغلة تشرذم التيارات الإسلامية.
هو يعتقد أن الحل الأفضل حاليا أن تكون هناك فترة انتقالية مدتها سنتان فقط، مع حكومة تكنوقراط، لا تهتم بالتفاصيل، بل تعمل من خلال مجالس فى الولايات والمدن المختلفة. مهمة الحكومة وضع القواعد الأساسية لمرحلة الانتقال تمهيدا للاستقرار. فى تقديره أن امتداد الفترة الانتقالية إلى أربع سنوات، كما يقترح البعض، قد تؤدى إلى إعادة إنتاج النظام القديم أو نسخة منه، سواء عبر المجلس العسكرى، أو قوى الثورة المضادة، التى تحاول الرهان على الوقت وأعصاب الناس وهمومهم اليومية، من أجل عدم الوصول إلى أسس ثابتة للمستقبل.
ما يدعو إلى التفاؤل ــ حسب خبراء ومراقبين ــ أن الرتب الصغيرة والمتوسطة فى أجهزة الأمن هى التى حمت الثورة فعليا، وهؤلاء نزل بعضهم ميادين التظاهر، وتحدوا القيادات العليا المحسوبة على جماعة الإخوان، والذين حاولوا مرارا تغيير واجهة الحكم فقط، أى عمر البشير، لكن إصرار هؤلاء هو الذى قاد إلى إخراج العديد من القيادات المحسوبة على التيارات الإسلامية، من المجلس العسكرى، ومن الجيش وأجهزة الأمن عموما.
الفترات الانتقالية تبدأ دائما بآمال عظيمة وكبيرة ومثالية، لكنها فى أحيان كثيرة، تنتهى نهايات درامية حزينة ومفجعة، لأن أصحابها لا يريدون رؤية الواقع الحقيقى على الأرض، بل يحلِّقون فقط فى أجواء من التمنيات والمثاليات. وبالتالى فإن أحد أهم الأسس التى تجعل الثورات تحقق أهدافها، أن تتمكن الأطراف الفاعلة فيها من قراءة الواقع بصورة دقيقة وصحيحة، حتى لا تصطدم بعراقيل ومعوقات متنوعة.
فى الثورات العربية التى وقعت فى السنوات الأخيرة، كان واضحا أن القوى الأساسية فيها نخبوية جدا وليست جماهيرية، والسؤال المهم هو ماذا سيحدث اذا تم إجراء انتخابات نيابية أو رئاسية الآن أو غدا أو حتى بعد ستة شهور؟!!.
نقلًا عن الشروق القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع