بقلم - عماد الدين حسين
الكلمات التالية حديث فى المصالح، وقد لا تعجب الكثير من الناس.
يهمس البعض أو يجهر بأن الدولة المصرية كان ينبغى عليها أن تتخذ موقفا من زيارة ولى العهد السعودى محمد بن سلمان يوم الإثنين الماضى، ضمن جولة بدأت بالإمارات ثم البحرين مرورا بمصر وبعدها تونس، نهاية بالأرجنتين لحضور قمة دول العشرين.
وجهة نظر هؤلاء أن جريمة قتل الكاتب الصحفى جمال خاشقجى بصورة بشعة داخل قنصلية بلاده فى إسطنبول فى الثانى من أكتوبر الماضى، والتداعيات التى نتجت عنها، كانت تحتم على مصر أن ترفض أو تتريث فى استقبال ولى العهد السعودى فى هذا التوقيت تحديدا.
يستشهد هؤلاء بمظاهرات الرفض الغاضبة التى اجتاحت تونس قبل وخلال الزيارة، والدعوى التى رفعتها رابطة الصحفيين التونسية للمطالبة بالتحقيق الدولى مع ولى العهد السعودى على خلفية الجريمة وحرب اليمن.
أولا أحترم كل أصحاب هذه الأفكار والدعوات وأدافع عن حقهم فى إبداء رأيهم، وكنت أتمنى أن يتاح لهم التعبير عن رأيهم بصورة سلمية حضارية حتى لو اختلفت معهم فى الوسائل، لكن فى المقابل أؤمن بمنطق «إذا كان للدولة ضروراتها فإن للشعوب خياراتها».
السؤال المنطقى هو إذا كانت تونس التى تلعب فيها حركة النهضة الإخوانية، دورا أساسيا فى المشهد السياسى، قررت استقبال ولى العهد السعودى، فما الذى كان مطلوبا أن تفعله مصر؟!.
مرة أخرى جريمة قتل خاشقجى بربرية وغير مسبوقة فى العصر الحديث، وينبغى إدانتها بأشد العبارات الموجودة بكل قواميس اللغة، لكن نحن اليوم نتحدث عن المصالح العليا لمصر.
يسأل البعض طوال الوقت: هل ينبغى على الحكومات أن تنفذ على الأرض، ما يطالب به الرأى العام أو جزء منه، وهل طريقة تفكير الحكومات تشبه طريقة الأفراد، من جهة النواحى الأخلاقية والمثالية؟!.
من وجهة نظرى فمن الأفضل أن تتطابق سياسات الحكومات مع تطلعات وتوجهات الرأى العام.
السؤال الثانى وماذا لو كان الرأى العام منقسما بشأن قضية ما، ثم وهذا هو الأهم: وماذا لو كانت الاستجابة للرأى العام أو بعضه فى لحظة زمنية معينة ضارة جدا بالمصالح الوطنية العليا لهذا البلد؟!.
لهذا ربما يكون الموقف الأمريكى والأوروبى من قضية خاشقجى يقدم لنا أفضل إجابة للسؤال عن الحالة المصرية.
فى أمريكا فإن الكونجرس والمخابرات المركزية الأمريكية وغالبية وسائل الإعلام المؤثرة، ومعهم قطاعات واسعة من مراكز البحث والرأى العام، كلهم تكتلوا وطلبوا من الرئيس الأمريكى دونالد ترامب أن يربط محمد بن سلمان بجريمة خاشقجى ويعمل على إخراجه من منصبه.
ترامب رد على كل هؤلاء بأن مصالح بلاده هى الأهم، وأن العالم ملىء بالأشرار، ورغم ذلك فإن العلاقات مع السعودية توفر مئات آلاف فرص العمل للأمريكيين، وأن الصفقات الاقتصادية والعسكرية الراهنة تصل إلى ٤٥٠ مليار دولار، وأنه لو قرر الاستجابة لمطالب الكونجرس ووسائل الإعلام، فإن السعودية ستوقع هذه الصفقات مع دول أخرى خصوصا الصين وروسيا.
نفس الموقف الأمريكى اتخذته الصين وروسيا والعديد من الدول الأوروبية المؤثرة مثل بريطانيا وفرنسا وإيطاليا، وكل هؤلاء اكتفوا بتوقيع عقوبات فقط على الموقوفين السعوديين على ذمة القضية.
نعود إلى السؤال الرئيسى، فى ظل كل هذا، ما الذى كان مطلوبا أن تفعله مصر الرسمية؟!
العلاقات المصرية السعودية متشعبة ومتداخلة فى كل المجالات، والاستثمارات السعودية فى مصر هى الأعلى عربيا والثانية عالميا بـ٢٧ مليار دولار، و٢٩٠٠ مشروع واستثمارات مصرية بالمليارات فى المملكة، وتبادل تجارى بنحو 6.5 مليار دولار سنويا، وودائع سعودية فى البنوك المصرية ومناطق تجارة حرة فى سيناء، ولا ننسى نحو 2 مليون مصرى يعملون فى السعودية يساهمون بالجزء الأكبر من تحويلات المصريين بالخارج، وهناك اتفاق منذ ثلاث سنوات تقوم بموجبه المملكة بتزويد مصر بمواد بترولية بقيمة ٥٠٠ مليون دولار شهريا بتسهيلات غير مسبوقة، إضافة بالطبع إلى التنسيق السياسى بين البلدين فيما يتعلق بالملفات الإقليمية وبالأخص فى ليبيا وسوريا واليمن والقضية الفلسطينية.
الموقف المصرى من قضية خاشقجى كان واضحا بإدانة الجريمة، وفى الوقت نفسه منع استخدامها كأداة سياسية للحصول على أثمان أخرى بعيدة عنها.
بعد كل ذلك أسجل كل التقدير والاحترام للأصوات الغاضبة، طالما أنها تدافع عن مبادئ إنسانية، لكن وفى تقديرى الشخصى، فإن الدولة المصرية تصرفت بصورة صحيحة شعارها المصالح الوطنية أولا.
نقلًا عن الشروق القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع