مرة أخرى.. أن يكون لدينا عدد أقل من الأحزاب، لكنها أكثر تأثيرا وجماهيرية، أمرا مهما ومطلوبا، لكن السؤال فى الحالة المصرية: هل يتم ذلك بالدمج، أم يفترض أن نبحث فى كيفية زيادة فاعلية هذه الأحزاب، لتصبح أحزابا بجد، وليست مجرد ديكور؟!.
الذين يطالبون بدمج الأحزاب الصغيرة فى أحزاب أكبر، لا يمكن لومهم، فهم يتحدثون بمنطق، لكن يغلب عليه «حسن النية».
مرة اخرى ولسوء الحظ فإن المشكلة الحزبية ليست ناتجة من كثرتها، بل من غياب فاعليتها وهشاشتها وانعدام جماهيريتها.
أكثر من ٩٥٪ من الأحزاب المصرية أنبوبية وكرتونية وهامشية وعائلية، واصطنعتها الحكومات المتعاقبة منذ بدء المنابر الثلاثة داخل الاتحاد الاشتراكى عام ١٩٧٦.
كان الهدف وقتها صناعة ديكور جميل، لكى يكون هناك انفتاح سياسى شكلى يتواكب مع الانفتاح الاقتصادى الشكلى أيضا أو «السداح مداح»، الذى ابتدعه أنور السادات، بعد أن انفتح على «الغرب الرأسمالى» وهجر «الشرق الاشتراكى». غالبية الحكومات منذ هذا الوقت حاصرت الأحزاب المدنية، ومنعت تطورها الطبيعى، وكانت النتيجة الكارثية أننا استيقظنا على كابوس الأحزاب الدينية المتطرفة التى استولت فى «غمضة عين» على مجلس الشعب والشورى ورئاسة الجمهورية وسائر النقابات المهنية والجمعيات الخيرية، بل وبعض الأندية الرياضية.
لم يكن الأمر فقط حصار الحكومات، بل فشل غالبية هذه الأحزاب فى التواصل مع الناس على أرض الواقع، والنتيجة هى هذا الشلل والعقم غير المسبوق للأحزاب المدنية.
إذًا الحل الحقيقى هو إتاحة هامش حقيقى من الحرية أمام الأحزاب المدنية الجادة، لكى تنمو وتكبر وتتطور، وتغرس جذورها فى هذه التربة شديدة الهشاشة.
ويصاحب ذلك وجود إيمان حقيقى من الدولة والنظام والحكومة بأهمية وجود حياة حزبية جادة، تتبنى أفكارا وبرامج ورؤى مختلفة ومتعارضة، طالما أنها التزمت بالقانون والدستور.
لكن قبل ذلك، لابد من وجود كوادر حزبية مؤهلة، تستطيع تقديم نماذج ملهمة للجماهير، كى تلتحق بعضوية هذه الأحزاب اقتناعا ببرامجها المتنوعة، وليس لتحقيق مصالح آنية سريعة مثل الحصول على وظيفة أو رخصة فرن أو مستودع غاز أو حتى الهرب من كمين!. من دون هذه الشروط الأساسية، فلن تكون هناك حياة حزبية، حتى لو أصدرنا قرارات بدمج الأحزاب كلها فى حزبين اثنين فقط!
بجانب ذلك، فإن الذين طرحوا فكرة الدمج نسوا عاملا مهما، وهو «الشخصانية»، التى تميز الحياة الحزبية المصرية. يعتقد كل واحد من غالبية رؤساء الأحزاب أنه جواهر لال نهرو وأنديرا غاندى، أو تشرشل ومارجريت تاتشر أو هيلموت كول وأنجيلا ميركل معا! رغم أن معظمهم، لم يتدرج فى أى عمل سياسى حقيقى، بل التحق بالأحزاب بمنطق المصادفة أو «السبوبة»!
وبالتالى، فكيف سيتم إقناع كل هؤلاء «الزعماء» بأن يندمجوا فى حزب أو اثنين أو ثلاثة؟!.
هم أساسا، كوَّنوا أحزابهم الكرتونية، لتفجير الحياة الحزبية سواء قبل يناير ٢٠١١ أو بعدها، وبالتالى، سيصبح من قبيل تضييع الوقت الرهان عليهم فى عمليات الدمج، أولًا لأنهم بلا قواعد جماهيرية، وثانيا لأن كلا منهم يعتقد أنه «الرجل الأول» والزعيم المفدَّى!!.
سمعت بعض هؤلاء يقول قبل أيام: إنه يؤيد الدمج، لكنه لم يخبرنا ما هو وزنه وتأثيره الذى سيدخل به عملية الدمج؟!
تقديرى الشخصى أن الحكومة تصنع خيرا، إذا سمحت بهامش حقيقى للأحزاب كى تتحرك، وأسارع للقول بأن ذلك لا ينطبق بأى حال من الأحوال على أى حزب دينى أو يتاجر بالدين أو يدعم العنف والإرهاب، أو يرفض القانون والدستور والدولة المدنية.
إذا سمحت الحكومة بالحد الأدنى من الحرية، وشجعت الأحزاب المدنية، فسوف تستطيع هذه الأحزاب، النزول للشارع والتحرك فيه بحرية، ومناقشة المواطنين فى القضايا الحياتية المختلفة، وتقديم رؤى ووجهات نظر مختلفة، يمكنها أن تساعد الحكومة فى معالجة السلبيات.
نعرف وندرك أنه لن تكون هناك تعددية وديمقراطية على الطريقة الغربية فى المدى المنظور، لكن على الأقل ستحسن الحكومة صنعا إذا بدأت فى تشجيع ودعم الأحزاب الجادة، وسن قوانين تقضى على «الآفات الحزبية الصغيرة»، بحيث نبدأ السير من الآن فى الطريق الديمقراطى الطويل حتى لو بدأنا من «كى جى 1».
المهم أن نبدأ، البداية الصحيحة.
نقلا عن الشروق القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع