هل الصحيفة أو الفضائية التى تستخدم أو تتوسع فى الأخبار المنسوبة إلى مصادر لا تذكر اسماءها صراحة، ترتكب خطأ أو جريمة مهنية أم أن الأمر طبيعى؟!.
هذا السؤال صالح كى نطرحه فى مصر، مثلما هو مطروح بقوة الآن فى الولايات المتحدة، وفى أماكن أخرى مختلفة من العالم، وسوف يظل يُطرح إلى أن تقوم الساعة.
مناسبة السؤال هو الجدل الدائر فى الولايات المتحدة، بعد أن نشرت صحيفة النيويورك تايمز افتتاحية غير مسبوقة، كتبها شخص وقع باعتباره عضوا مهما فى إدارة الرئيس الأمريكى دونالد ترامب، وقال إنه «جزء من عملية مقاومة هادئة داخل الإدارة للقرارات الهوجاء التى يتخذها الرئيس وتهدد من وجهة نظره الديمقراطية الأمريكية».
ترامب وبعض مساعديه وأنصاره، استنكروا ما فعلته الصحيفة، وطالبوها بالإعلان عن اسم كاتب الافتتاحية واتهموها بتهديد الأمن القومى للبلاد، وقائمة مطولة من التهم الشنيعة.
لن نتوقف كثيرا عند منطق ترامب، الذى كسر كل الحدود والقواعد، ويتعامل مع أى صحيفة مختلفة معه باعتبارها شريرة وظالمة وتنفذ أجندة معادية، رغم أن صعوده المثير، كان فى جزء كبير منه يعود إلى قدرته على التعامل مع الإعلام خصوصا غير التقليدى.
ما يهمنا هو مناقشة القطاعات الكبيرة التى تصدق شيطنة الصحف ووسائل الإعلام، التى تلجأ إلى استخدام المصادر التى لا تذكر اسماءها.
بالطبع فإن الأفضل والأحسن والمثالى، هو أن تذكر كل صحيفة اسم المصدر واضحا ومحددا. لكن السؤال الذى لا يفكر فيه الكثيرون هو: لماذا تلجأ وسائل الإعلام إلى حكاية المصدر المجهول أو العليم أو الذى رفض ذكر اسمه؟!.
للتوضيح، لا يوجد شىء اسمه المصادر المجهولة أو المجهلة. الأصح القول المصدر الذى فضل عدم ذكر اسمه. لأنه مصدر معلوم للصحفى وللصحيفة، وأحيانا يكون معروفا لبعض القراء أو المتابعين النابهين والأذكياء، من خلال الأوصاف التى يذكرها الصحفى عنه.
تلجأ الصحف لهذا النوع من المصادر، لأنها لو ذكرت اسمه لحرقته تماما. تخيلوا لو أن المصدر الذى كتب افتتاحية النيويورك تايمز ذكر اسمه، أو كشفته الصحيفة. المؤكد أن ترامب سوف ينكل به بشكل لا يتخيله أحد!.
وبالتالى فالسؤال الجوهرى الذى يفترض أن يسأله الغاضبون من حكاية المصادر غير المعلنة هو: انسوا حكاية المصدر.. المهم هل الخبر صحيح أم لا؟!.. هذا هو المعيار الرئيسى. ثم أن كثيرا من المصادر التى تفضل عدم ذكر اسمها هى مصادر حكومية، فى معظم بلدان العالم.
فى مرات كثيرة يتم تسريب معلومات أو أفكار أو آراء حتى يمكن قياس رد فعل الرأى العام.. وحدث ذلك فى مصر فى الماضى ويحدث فى الحاضر، وسيستمر فى المستقبل. تخيلوا وزيرا يريد أن يلفت النظر إلى خطأ ما داخل حكومته.. فهل يخرج ويقول: أنا الوزير الفلانى اعترض على سياسة زميلى الوزير أو رئيس الحكومة، أم يسرب الخبر أو القصة للصحفى، ويكتبها تحت اسم مصدر رفض ذكر اسمه، وبالتالى يتم معالجة الخطأ؟!.
نحن ننسى أن معظم القصص الصحفية العظيمة بدأت من أخبار لا مصادر رسمية لها، وفى مقدمة ذلك فضيحة ووترجيت التى فجرها الصحفى الشاب وقتها بوب وودورد ونتيجة لها تم طرد الرئيس نيكسون من البيت الأبيض. المصدر وقتها كان ضابط فى البحرية الأمريكية، كان يمد الصحفى بالمعلومات خلال لقاءات داخل دورة مياه. وودورد صار صحفيا عظيما وهو الذى ألف ونشر قبل أيام الكتاب الأخير «الخوف» وفيه فضح العالم العبثى الموجود داخل البيت الأبيض. معظم معلومات الكتاب منسوبة لمصادر لم تذكر اسمها.. فهل تتهم المؤلف بأنه لا يفهم و«الواشنطن بوسطت» باعتبارها «صحيفة نص لبة؟!».
لولا المصادر التى تفضل عدم ذكر اسمها لماتت الصحف وتحولت إلى نشرات صفراء لا يقرأها أحد. والغريب أن غالبية من يستنكرون الاخبار المجهلة، هم أنفسهم من يلجأون إليها فى معظم اخبارهم وتحليلاتهم، وأحيانا بطريقة فجة!!.
إذا القصة ليست هل المصدر واضح فى هذا الخبر أم لا، بل المهم هو: هل المعلومة أو الرأى أو الفكرة صحيحة أم لا، وكذلك مدى دقة ومصداقية وسيلة النشر.
من واقع خبرة فى هذه المهنة عمرها ٣٢ عاما، فهذه المصادر التى لا تذكر اسمها، كانت العمود الفقرى فى الصحافة العالمية.. وبالتالى فالمهنة مدينة لهؤلاء المصادر بالكثير.
نقلًا عن الشروق القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع