الميليشيات الارهابية والتدخل الخارجى لعبوا دورا كبيرا فى وصول الشقيقة ليبيا لحالتها الراهنة، لكن ليسوا هم السبب الوحيد فى المأساة؟!
للموضوعية فهناك طرف أساسى مسئول عن المأساة هو معمر القذافى ونظامه.
أعرف أن كثيرين يترحمون الآن على أيام القذافى مقارنة بالاوضاع الراهنة، لكن الكارثة هى التى تحاول اجبار الليبيين على الاختيار بين الميليشيات الراهنة أو نظام القذافى.
الطرفان كارثيان، والحل هو طريق ثالث يبنى الدولة على أسس مدنية صحيحة.
أكتب هذه الخلاصة انطلاقا من تجربة عشتها بنفسى، ووصلت إلى قناعة نهائية بأنه ما كان يمكن للتطرف والإرهاب والفساد أن يتجذر فى ليبيا وغيرها من البلدان العربية، لولا تجبر واستبداد وتخلف أنظمتها الشمولية المتخلفة.
فى ١٩٩٤ كنت أعمل صحفيا بقسم الشئون العربية بجريدة العربى الناصرى، وتلقيت دعوة لزيارة طرابلس. لم يكن هناك طيران، لأن القوى الكبرى خصوصا أمريكا وبريطانيا وفرنسا فرضت حظرا جويا، عقابا للقذافى، الذى اتهمته بتفجير طائرة ركاب فوق بلدة لوكيربى الإسكتلندية عام 1988، والطائرة الفرنسية «يو تى ايه» فوق النيجر عام 1989.
القذافى وقتها أعلن أنه سيخرق الحظر وسينقل حجاج بلاده جوا لجدة بالسعودية.
سافرنا برا بسيارة انطلقت بنا من حى الزمالك بالقاهرة وكان معى مجدى أحمد حسين رئيس تحرير الشعب وقتها، وثلاثة مراسلين ومصورون اجانب لسى إن إن، وأسوشيتد برس.
وصلنا بعد رحلة من العذاب، وانتظرنا على نقطة حدود امساعد، بحجة اننا لا نملك تصريحا، رغم وجود دعوة رسمية من مكتب القذافى.
حاولنا عبثا الاتصال بوزير الخارجية عمر المنتصر فقيل لنا، إنه نزل للمشاركة فى مظاهرة جماهيرية ضد الإمبريالية!. وبعد انتظار لخمس ساعات، دخلنا، وركبنا الطائرة من طبرق لطرابلس. فى الفندق ظللنا اياما لا نفعل شيئا سوى الاكل!!
وبعدها حضرنا احتفالا فى مطار طرابلس لمغادرة الطائرات، التى عرفنا فيما بعد أنها هبطت فى مطار بنى غازى وقامت طائرات دولة عربية جارة بنقلهم لجدة بالاتفاق مع الدول الكبرى، فى حين أن القذافى أقنع شعبه أن طائراته اخترقت الحصار وكان الهتاف الأشهر وقتها «صير تحدى، صير تحدى.. طيارتك وصلت جدة»!
بعدها بأيام طلبوا منا أن نتحرك من الفندق لمقابلة شخصية مهمة، تحرك الأتوبيس، وحاولت عبثا سؤال مرافقنا اكثر من مرة: إلى أين نحن ذاهبون فلم يرد؟!، وصلنا لقصر العزيزية، وعرفته من آثار الرصاص الذى كان باقيا من القصف الأمريكى الشهير. ثم سألت المرافق ثانية: «أليس هذا قصر العزيزية؟!»، فقال: لا أعرف!!
دخلنا خيمة، وقابلنا القذافى، وحينما قدمنى المرافق إليه قائلا: فلان من صحيفة العربى الناصرية، فسألنى القذافى: وهل هناك ناصرية؟! فاجبته نعم بالطبع؟!.خلال اللقاء الذى استغرق ساعتين، لم يكن القذافى ينظر إلينا، بل إما إلى الأرض أو إلى سقف القاعة!.
انتهى اللقاء، وخرجنا من القصر، ونحن فى الأتوبيس سألت المرافق مازحا: أليس هذا قصر العزيزية، وأليس هذا هو القذافى الذى قابلناه، فرد بكل جدية وتجهم لا أعلم!
خلال الزيارة التى قاربت الأيام العشرة، كان المرافقون لا يتركون شخصين يتحدثان معا. بل يحرصون على الوقوف بينهما، ظنا أنهما متآمران ربما.
جاءنى شخص مصرى الأصل يريد أن يفرجنى على طرابلس. المرافق رفض، وبعد إصرار وافق، بعد أن أخذ بطاقة هويته. عدنا بعد ساعة، وذهب الزميل لإحضار هويته، لكنه تأخر ساعة، ثم عاد ووجهه منفوخ من الضرب!!. صرخت فى المرافق بكل ما أوتيت من قوة، وكان كل هم الزميل المصرى ألا أقول لهم إنه مصرى، بل مجرد شخص قابلته صدفة فى ميدان العتبة خلال زيارته لمصر!.
ونحن عائدون، فقدنا الرحلة الجوية من طرابلس إلى بنغازى، وركبنا سيارات، وبعد رحلة مضنية من التفتيش وصلنا مطار بنى غازى لنأخذ طائرة إلى طبرق. هناك فوجئنا بشركة طيران دولة عربية موجودة لنقل الحجاج. مصور الأسوشيتد برس فتح كاميرته بهدوء لتصوير هذا السبق الصحفى المهم. أحد رجال الأمن قبض عليه، وحجزوه فى غرفة وعذبوه لمدة زادت عن ساعة كما أخبرنا لاحقا.
حينما زرت ليبيا كان عمرى ثلاثين عاما، كنت شديد الحماس وقتها، كنت أعتقد أن نظام القذافى يقاوم الإمبريالية فعلا. بعد الزيارة اكتشفت أنه دمر مؤسسات البلد تماما، بل والاخطر انه جرف الكثير من عقول الشعب الليبى المغلوب على أمره!!
لولا ما فعله القذافى ما كان يمكن لحلف الناتو أن يدمر ليبيا، وما كان يمكن للمتطرفين والسلفيين أن يسيطروا على طرابلس والعديد من المدن الليبية.
هذا بالضبط ما يفعله الاستبداد والتخلف والجهل بالشعوب!
نقلًا عن الشروق القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع