بقلم: عماد الدين حسين
الخائن لا يوقّع وثيقة علنية تطالب بعودة الاستعمار أو المحتل السابق. اليائس فقط هو من يفعل ذلك.
هذا الانطباع الأول الذى توارد إلى ذهنى وأنا أتابع عدد الموقعين على عريضة تطالب فرنسا بإعادة انتدابها على لبنان لعشر سنوات جديدة قادمة إلى أكثر من 60 ألف شخص.
مناسبة هذا الكلام هو تجمهر آلاف اللبنانيين صباح الخميس الماضى ترحيبا بزيارة الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون إلى بيروت تضامنا مع أهل العاصمة بعد الانفجار الهائل الذى دمر ميناء بيروت مساء يوم الثلاثاء الماضى. وأدى لمقتل أكثر من ١٥٠ شخصا وإصابة أكثر من خمسة آلاف ودمار الميناء ومساحات واسعة من المناطق المحيطة به وتشريد أكثر من ٣٠٠ ألف لبنانى.
الرئيس الفرنسىِ زار لبنان بعد نحو ٣٦ ساعة من الانفجار. وخلال الزيارة قال إنه سيقدم مبادرة سياسية جديدة تتضمن بدء الإصلاحات وتغيير النظام ووقف الانقسام ومحاربة الفساد معتبرا أن لبنان يعانى من أزمة أخلاقية وسياسية ومالية.
ماكرون رد على من طالبوا بالانتداب قائلا فيما معناه: فرنسا لن تحكمكم بل أنتم من ستحكمون أنفسكم.
هو زار لبنان بطريقة استعراضية، ولكن هل نلومه، أم نلوم تقصيرنا كعرب؟!
والحمد لله أن الأمين العام للجامعة العربية السفير أحمد أبو الغيط زار بيروت أمس وهى خطوة مهمة جدا، فى ظل أن غير العرب هم الذين صاروا يحددون مصائرنا.
قبل زيارة ماكرون فإن وزير خارجيته جان إيف لودريان قد زار بيروت يوم ٢٢ يوليو الماضى وقال ما معناه: هذا البلد بات على حافة الهاوية وسيغرق إذا لم تسارع السلطات اللبنانية إلى اتخاذ إجراءات لإنقاذه».
لمن نسى التاريخ فإن لبنان كانت واقعة تحت الاحتلال أو الانتداب الفرنسى منذ عام ١٩٢٠، ولم يحصل على استقلاله إلا فى ١٧ إبريل ١٩٤٣، ورحل آخر جندى للاحتلال عن أرضه عام ١٩٤٦.
الاحتلال هو الاحتلال. ولا يوجد احتلال طيب وآخر شرير. والاستعمار الأجنبى كان كارثة على المنطقة العربية بأكملها، ويكفى أن نتذكر ما فعله الاحتلال الفرنسى الاستيطانى فى الجزائر لمدة ١٣٠ عاما وأيضا فى تونس والمغرب، ولا ننسى الاستعمار الإنجليزى فى مصر والسودان والخليج العربى، والاستعمار الإيطالى فى ليبيا. والأمريكى والفرنسى فى فيتنام.
إذا كان الاحتلال سيئا دائما، فإن السؤال المنطقى هو: ما الذى يدفع جانبا من الناس إلى الحنين للاستعمار، بل والتجرؤ على توقيع عريضة لإعادة هذا الاحتلال؟!!.
لا يمكن تفسير ذلك إلا بتذكر قاعدة: «ما الذى رماك على المر؟ فقال الأمر منه!!».
الخائن لا يلجأ إلى توقيع العرائض العلنية، بل يمارس خيانته فى السر والظلام، وهؤلاء الذين وقعوا العريضة ليسوا خونة، ولكنهم يائسون تماما.
أعارض بصوة قطعية سلوكهم وتوقيعهم على العريضة، لكن من المهم جدا أن ندرس ونبحث ونناقش السياق الذى أوصلهم إلى هذه الحالة.
أسهل شىء فى هذه القضية أن نرميهم بالخيانة، لكن الأفضل أن نفكر بهدوء فى الأوضاع التى تدفع مجموعة من سكان بلد عربى مهم مثل لبنان إلى التفكير فى هذا السلوك الصادم.
من وقعوا الوثيقة أخطأوا، لكن المجرم الحقيقى الذى ينبغى محاكمته ليس هؤلاء، بل الطبقة السياسية المجرمة من كل الطوائف والأحزاب والقوى السياسية والاقتصادية والاجتماعية التى أوصلت لبنان إلى حالته الراهنة.
أفراد هذه الطبقة هم من ينبغى محاكمتهم فى ميدان عام، وفضحهم وتعريتهم، لأنهم أوصلوا هذا البلد الرائع إلى هذه الحالة المأساوية.
حينما يعجز لبنان عن سداد ديونه، وحينما لا يجد بعض الشباب ملجأ إلا الانتحار، وحينما تهيمن الطائفية والمذهبية على هذا البلد، وحينما تصل الأمور إلى هذا المنحدر، فوقتها علينا ألا نلوم من يطالب بعودة الانتداب والاحتلال، بل الخونة الحقيقيين الذين انحدروا بلبنان إلى هذه الدرجة من السقوط!