يوم الإثنين الماضى، دعت وزارة الخارجية الإيرانية الولايات المتحدة إلى وقف العنف ضد شعبها !!!. وبعدها بيوم واحد دعت الخارحية الروسية الحكومة الأمريكية التوقف عن استهداف الصحفيين الذين يغطون المظاهرات والاحتجاجات العنيفة فى مدينة مينيابولس بولاية مينسوتا، عقب مقتل المواطن من أصل إفريقى جورج فلويد أثناء توقيفه بطريقة وحشية.
وأمس الاربعاء اتهمت الصين واشنطن بالتناقض فهى تدافع عن احتجاجات هونج كونج ضد بكين فى حين أنها تقمع الاحتجاجات فى بلدها.
النداء الإيرانى وبعده الروسى والتعليق الصينى قد يبدو غريبا. لكنه فرصة جاءت من السماء للمسئولين فى الدول الثلاث ليردوا بنفس اللغة والطريقة التى تستخدمها الإدارات الأمريكية معهم منذ عقود طويلة.
هل كلامى يعنى أن الدول الثلاث تطبق وتؤمن بالحريات والديمقراطية والتسامح مع شعوبها؟!
الإجابة هى لا، والدول الثلاث لديها مشاكل كثيرة فيما يخص الحريات وحقوق الإنسان ونظام الحكم فى إيران، يسعى لفرض نظام ولاية الفقيه على المنطقة بأكملها، وقتل بلا رحمة مئات المواطنين فى نوفمبر الماضى حينما احتجوا سلما على رفع أسعار الوقود.
لكن المفارقة أن سياسات الرئيس الأمريكى دونالد ترامب هبطت ببلده إلى نفس المنهج الموجود فى دول كثيرة بالعالم الثالث، حينما بدأ يتحدث عن دول وقوى مختلفة تحاول تأجيج الأوضاع عقب مقتل فلويد. ومن المفارقات الصادمة أن مستشار الأمن القومى روبوت أوبراين اتهم زيمبابوى بدعم الاحتجاجات، الأمر الذى دعا الحكومة هناك لاستدعاء السفير الأمريكى للاحتجاج على ذلك.
التخريب والتدمير خلال المظاهرات أمر مدان تماما، ولابد من مواجهته بأقصى ما يتيحه القانون من قوة. لكن الملاحظ أن ترامب يتصرف بطريقة لم يسبقه إليها رئيس أمريكى. هو يهدد علنا باستخدام القوة، وقلبه مع التمييز العنصرى، والنتيجة أن الاحتجاجات انتقلت من مينيابوليس إلى أكثر من ٢٥٠ مدينة أمريكية و٢٣ بلدا خارج أمريكا. والأهم وجود حملة تضامن دولية متنامية لدرجة أن العديد من اللاعبين المحترفين فى الدورى الألمانى لكرة القدم كتبوا على التيشترات الداخلية لهم عبارات تضامنا مع جورج فلويد، ومنهم الدولى المغربى أشرف حكيمى. وبعدها كتب ليونيل ميسى متعاطفا مع فلويد. ورأينا أيضا الاتحاد الأوروبى يتضامن مع المظاهرات السلمية.
وربما هناك رؤساء ومسئولين يريدون التضامن لكنهم قد يخشون من غضب ترامب.
الولايات المتحدة ومنذ عقود طويلة نصبت نفسها حارسة ورقيبة على الديموقراطية والحرية وحقوق الإنسان فى العالم، بل وتدخلت فى العديد من الدول لفرض هذه القيم، ورأينا النتيجة الكارثية لهذا التدخل فى العراق عقب غزوة عام ٢٠٠٣.
فى تقديرى هناك فارق كبير بين النموذج الملهم الذى يقدمه المجتمع الأمريكى المتمثل فى القوة الناعمة والثورة التكنولوجية وهوليوود وحريات الإبداع والفنون والبحث العلمى، والجامعات والمستشفيات المتقدمة، وبين سلوك غالبية الإدرات الأمريكية المتعاقبة، التى تعظ عن الحريات وحقوق الإنسان، وفى نفس الوقت تدعم أنظمة استبدادية فى العديد من بلدان العالم، إضافة لدعمها اللا محدود لإسرائيل.
أمريكا تطالب العديد من دول العالم ليل نهار بالحريات وحقوق الإنسان، وربما كانت محقة فى العديد من الحالات، لكنها شربت من نفس الكأس بعد حالة جورج فلويد ــ الذى مات بسبب تعذيبه فى 25 مايو الماضى على يد الشرطى الأمريكى ديريك تشوفين، الذى ضغط على عنق جورج فلويد وهو مستلقٍ على وجهه على الأرض ومقيد اليدين، لمدة 8 دقائق، ولم يرحمه حتى وهو يستغيث قائلا: «لا أستطيع التنفس». هذه العبارة صارت أيقونة الاحتجاجات ضد العنصرية التى يتعامل بها عدد كبير من رجال الأمن البيض ضد سود أمريكا.
واشنطن دائمة الانتقاد لملف الحريات وحقوق الإنسان فى العديد من الدول منذ سنوات طويلة خصوصا إيران وروسيا والصين، وأى دولة تتجرأ وتختلف مع التوجهات الأمريكية. كان منطقيا أن يخرج بعض مسئولى هذه الدول مؤخرا ليكرروا على واشنطن نفس الأسطوانة التى تعزفها لهم دائما.
العنصرية لم تختفِ تماما من المجتمع الأمريكى، وهى موجودة إلى حد كبير تحت جلد المجتمع، وكل فترة تتكرر بصورة أو بأخرى حادثة مماثلة لجورج فلويد.
طبعا المجتمع الأمريكى أكثر تقدما واستمتاعا بالحرية وحقوق الإنسان من دول كثيرة، لكن المؤكد أن مجمل سياسات ترامب تأخذ المجتمع الأمريكى إلى أسفل بصورة سريعة.
ما فعله ترامب وإدارته فى مواجهة الاحتجاجات، وحديثه الذى ينضح عنصرية واستعلاء، سوف يقيد إلى حد كبير من قدرة الإدارة الأمريكية على إعطاء دروس لبقية الدول فى الحريات وحقوق الإنسان، ولو فعل ذلك، سيقول له العديد من المسئولين: «كما تدين تدان،ومن يكون بيته من زجاج، فلا يلقى بالأحجار على بيوت الآخرين».!!