بقلم : عماد الدين حسين
أرجو أن يعذرنى القراء الأعزاء، لأن الكتابة عن والدى ــ الذى توفى الاسبوع الماضى ــ ستبدو لكثيرين عملا شخصيا جدا، وليس هذا مكانه.
وظنى أن الأمر، حتى لو كان شخصيا، فهو يتعلق أيضا بالعلاقة بين الآباء والأبناء خصوصا فى هذا العصر الذى اختلت فيه مسلمات وبديهيات كثيرة.
والدى من مواليد ٢٥ يناير ١٩٤٠، كان رئيسا للجمعية الزراعية بقريتنا التمساحية بأسيوط، ثم التحق ببنك التنمية والائتمان الزراعى فى المنشأة الكبرى. أنجب أولاده وبناته السبعة قبل أن يكمل الرابعة والثلاثين من عمره، ومات له سبعة اخرين مثلهم .
والدى ورغم أنه ولد وعاش فى أجواء صعيدية محافظة ومغلقة، إلا أنه كان شديد التفتح والعقلانية، وما فعله معنا، أتمنى أن يفعله أى أب مع أولاده.
أبى لم يستخدم أسلوب الضرب معنا، رغم أن ذلك كان شائعا جدا فى الريف والصعيد، بل أزعم أنه ما يزال مستمرا حتى الآن وبطرق وحشية أحيانا.
شقيقاتى الأربع لم يرتدين الحجاب لفترة، وكنا يذهبن من القرية للمركز ولمدينة أسيوط وجامعتها من دون حجاب، حتى قررن من تلقاء أنفسهن ارتداءه، من دون ضغط من والدى، حيث ترك لهن حرية الاختيار. وأظن أن ارتداء الحجاب فى هذا الوقت كان فى إطار الظروف الاجتماعية والسياسية التى غيرت الكثير من المجتمع بداية من أوائل الثمانينيات.
حينما نجحت فى الثانوية العامة بتفوق، تمنى على والدى أن التحق بإحدى كليات الحربية أو الشرطة أو الحقوق، لكى أصبح ضابطا أو وكيل نيابة. قلت له وقتها إن أملى الوحيد أن ألتحق بكلية الإعلام جامعة القاهرة، حاول إقناعى كثيرا، لكننى أصررت على موقفى، فاحترمه ودعمنى بصورة كاملة، بل كان يشترى لى الصحف من المركز أو البندر بصورة شبه منتظمة بداية من الصف الأول الإعدادى.
كان والدى يؤمن إيمانا كاملا بأهمية التعليم ولذلك لم يشعر بأى ندم حينما باع معظم أرضه الزراعية، من أجل تعليم أولاده السبعة تعليما جيدا، لكنه كان أكثر إيمانا بأن التربية الصحيحة تأتى قبل وأثناء وبعد التعليم، فهى الكنز الحقيقى لأى شخص، ومن دونها لن تكون هناك قيمة لأعلى الشهادات الدراسية.
وبعد حصولى على بكالوريوس الإعلام من جامعة القاهرة عام 1986، عملت فى معظم الصحف اليسارية، بداية من «صوت العرب»، حاول إقناعى بالالتحاق بأى صحيفة قومية، ودخلت معه فى نقاشات مطولة من دون إكراه. وحينما أغلقت الحكومة صحيفة «صوت العرب» عام ١٩٨٨، ثم «مصر الفتاة» عام ١٩٩٢، عاد ليحاول إقناعى، فذهبت إلى «دار التحرير» للعمل فى مركز الأبحاث لمدة سنة ونصف السنة مع الدكتور فتحى عبدالفتاح رحمه الله، لكن عدت مرة أخرى للعمل فى صحيفة «العربى»، وظل ثابتا فى احترام خياراتى.
كان والدى مدخنا شرها لم يتوقف إلا بعد أن أجرى عملية قلب مفتوح وهو فى أوائل الخمسينيات من عمره، وحينما بدأت التدخين عام 1982، شرح لى مضار التدخين وقال لى إنه لا يريدنى أن أكرر تجربته، لكنه لم يضغط على إلا حينما توقف هو عن التدخين ليكون لى قدوة، وظل ينصحنى من دون يأس. وكانت أسعد لحظاته حينما أخبرته عام ٢٠٠٧ أننى توقفت عن التدخين بمحض إرادتى وبصورة نهائية.
كان والدى شديد الود والكرم مع كل أصدقائى وأصحابى منذ أيام الإعدادية وحتى أيامه الأخيرة. لا يفرق بين عامل متواضع ووزير.
وقبل أربع سنوات زارنى السفير محمد العرابى وزير الخارجية الأسبق فى منزل والدى بأسيوط حينما كنا نشارك سويا فى مؤتمر علمى فى جامعة أسيوط، وقبلها بيوم كان معى سائق الجامعة واستقبل وأكرم الاثنين بنفس الدرجة.
عدد كبير من أصدقائى الحقيقيين كانوا أصدقاء لوالدى، وكان يشعر بسعادة غامرة حينما يقدم لهم طعاما من صنع يديه خصوصا الطواجن.
كان الرجل خدوما للجميع أثناء عمله فى الجمعية الزراعية وبنك الائتمان الزراعى، وحتى بعد خروجه للمعاش. ظل الجميع يقصده فى كل المشاكل لأنه كان يملك قدرة مدهشة على الوصول لحلول وتسويات، وإشعار كل طرف أنه حصل على أفضل النتائج.
رحم الله أبى أو أبويا كما كنت أسميه معظم الأحيان، وليت كل أب يقترب من أولاده ويصادقهم ويستمع إليهم ويجلس معهم أطول وقت ممكن، قبل أن يفوت الأوان.