توقيت القاهرة المحلي 07:48:38 آخر تحديث
  مصر اليوم -

الأب المتفتح فى مجتمع صعيدى مغلق

  مصر اليوم -

الأب المتفتح فى مجتمع صعيدى مغلق

بقلم : عماد الدين حسين

أرجو أن يعذرنى القراء الأعزاء، لأن الكتابة عن والدى ــ الذى توفى الاسبوع الماضى ــ ستبدو لكثيرين عملا شخصيا جدا، وليس هذا مكانه.
وظنى أن الأمر، حتى لو كان شخصيا، فهو يتعلق أيضا بالعلاقة بين الآباء والأبناء خصوصا فى هذا العصر الذى اختلت فيه مسلمات وبديهيات كثيرة.
والدى من مواليد ٢٥ يناير ١٩٤٠، كان رئيسا للجمعية الزراعية بقريتنا التمساحية بأسيوط، ثم التحق ببنك التنمية والائتمان الزراعى فى المنشأة الكبرى. أنجب أولاده وبناته السبعة قبل أن يكمل الرابعة والثلاثين من عمره، ومات له سبعة اخرين مثلهم .
والدى ورغم أنه ولد وعاش فى أجواء صعيدية محافظة ومغلقة، إلا أنه كان شديد التفتح والعقلانية، وما فعله معنا، أتمنى أن يفعله أى أب مع أولاده.
أبى لم يستخدم أسلوب الضرب معنا، رغم أن ذلك كان شائعا جدا فى الريف والصعيد، بل أزعم أنه ما يزال مستمرا حتى الآن وبطرق وحشية أحيانا.
شقيقاتى الأربع لم يرتدين الحجاب لفترة، وكنا يذهبن من القرية للمركز ولمدينة أسيوط وجامعتها من دون حجاب، حتى قررن من تلقاء أنفسهن ارتداءه، من دون ضغط من والدى، حيث ترك لهن حرية الاختيار. وأظن أن ارتداء الحجاب فى هذا الوقت كان فى إطار الظروف الاجتماعية والسياسية التى غيرت الكثير من المجتمع بداية من أوائل الثمانينيات.
حينما نجحت فى الثانوية العامة بتفوق، تمنى على والدى أن التحق بإحدى كليات الحربية أو الشرطة أو الحقوق، لكى أصبح ضابطا أو وكيل نيابة. قلت له وقتها إن أملى الوحيد أن ألتحق بكلية الإعلام جامعة القاهرة، حاول إقناعى كثيرا، لكننى أصررت على موقفى، فاحترمه ودعمنى بصورة كاملة، بل كان يشترى لى الصحف من المركز أو البندر بصورة شبه منتظمة بداية من الصف الأول الإعدادى.
كان والدى يؤمن إيمانا كاملا بأهمية التعليم ولذلك لم يشعر بأى ندم حينما باع معظم أرضه الزراعية، من أجل تعليم أولاده السبعة تعليما جيدا، لكنه كان أكثر إيمانا بأن التربية الصحيحة تأتى قبل وأثناء وبعد التعليم، فهى الكنز الحقيقى لأى شخص، ومن دونها لن تكون هناك قيمة لأعلى الشهادات الدراسية.
وبعد حصولى على بكالوريوس الإعلام من جامعة القاهرة عام 1986، عملت فى معظم الصحف اليسارية، بداية من «صوت العرب»، حاول إقناعى بالالتحاق بأى صحيفة قومية، ودخلت معه فى نقاشات مطولة من دون إكراه. وحينما أغلقت الحكومة صحيفة «صوت العرب» عام ١٩٨٨، ثم «مصر الفتاة» عام ١٩٩٢، عاد ليحاول إقناعى، فذهبت إلى «دار التحرير» للعمل فى مركز الأبحاث لمدة سنة ونصف السنة مع الدكتور فتحى عبدالفتاح رحمه الله، لكن عدت مرة أخرى للعمل فى صحيفة «العربى»، وظل ثابتا فى احترام خياراتى.
كان والدى مدخنا شرها لم يتوقف إلا بعد أن أجرى عملية قلب مفتوح وهو فى أوائل الخمسينيات من عمره، وحينما بدأت التدخين عام 1982، شرح لى مضار التدخين وقال لى إنه لا يريدنى أن أكرر تجربته، لكنه لم يضغط على إلا حينما توقف هو عن التدخين ليكون لى قدوة، وظل ينصحنى من دون يأس. وكانت أسعد لحظاته حينما أخبرته عام ٢٠٠٧ أننى توقفت عن التدخين بمحض إرادتى وبصورة نهائية.
كان والدى شديد الود والكرم مع كل أصدقائى وأصحابى منذ أيام الإعدادية وحتى أيامه الأخيرة. لا يفرق بين عامل متواضع ووزير.
وقبل أربع سنوات زارنى السفير محمد العرابى وزير الخارجية الأسبق فى منزل والدى بأسيوط حينما كنا نشارك سويا فى مؤتمر علمى فى جامعة أسيوط، وقبلها بيوم كان معى سائق الجامعة واستقبل وأكرم الاثنين بنفس الدرجة.
عدد كبير من أصدقائى الحقيقيين كانوا أصدقاء لوالدى، وكان يشعر بسعادة غامرة حينما يقدم لهم طعاما من صنع يديه خصوصا الطواجن.
كان الرجل خدوما للجميع أثناء عمله فى الجمعية الزراعية وبنك الائتمان الزراعى، وحتى بعد خروجه للمعاش. ظل الجميع يقصده فى كل المشاكل لأنه كان يملك قدرة مدهشة على الوصول لحلول وتسويات، وإشعار كل طرف أنه حصل على أفضل النتائج.
رحم الله أبى أو أبويا كما كنت أسميه معظم الأحيان، وليت كل أب يقترب من أولاده ويصادقهم ويستمع إليهم ويجلس معهم أطول وقت ممكن، قبل أن يفوت الأوان.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الأب المتفتح فى مجتمع صعيدى مغلق الأب المتفتح فى مجتمع صعيدى مغلق



GMT 10:17 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

ممدوح عباس!

GMT 10:15 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

القديم والجديد؟!

GMT 08:33 2024 السبت ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

فرنسا تتصالح مع نفسها في المغرب

GMT 03:37 2024 الأحد ,13 تشرين الأول / أكتوبر

حزب المحافظين البريطاني: «لليمين دُرْ»!

GMT 23:09 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

هل يمكن خلق الدولة في لبنان؟

GMT 12:35 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024
  مصر اليوم - أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024

GMT 12:26 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف
  مصر اليوم - نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف

GMT 17:17 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب
  مصر اليوم - الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب

GMT 22:45 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

زينة تستعد للمشاركة في الدراما التركية
  مصر اليوم - زينة تستعد للمشاركة في الدراما التركية

GMT 07:12 2024 الجمعة ,13 كانون الأول / ديسمبر

فينيسيوس الأفضل في العالم لأول مرة وهذا ترتيب ميسي وصلاح

GMT 15:43 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 22:56 2019 الإثنين ,09 كانون الأول / ديسمبر

إيهاب جلال يطمئن على فريد شوقي بعد تحسن حالته

GMT 16:26 2019 الأحد ,10 آذار/ مارس

سيدة كل العصور

GMT 06:37 2018 الثلاثاء ,28 آب / أغسطس

تعرف على سعرالمانجو في سوق العبور الثلاثاء

GMT 01:04 2018 الثلاثاء ,01 أيار / مايو

وداع أندريس إنييستا يخيم على احتفالات برشلونة
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon