حتى وقت قريب جدا، كنا نظن أن هناك خطرا كبيرا جدا على الصحافة الورقية فى العالم أجمع، بسبب الدور المتنامى جدا للصحافة الرقمية الإلكترونية، الآن يتضح لنا أنه حتى هذه الصحافة الرقمية تواجه أخطارا حقيقية، لأن القراء، غير مستعدين لأن يدفعوا أموالا مقابل حصولهم على الأخبار.
تفاصيل هذا التطور الخطير كشفها معهد رويترز لدراسة الصحافة الموجودة فى مركز الأبحاث بجامعة أكسفورد. المعهد يتتبع الاتجاهات الإعلامية، وتموله مؤسسة تومسون رويترز.
فى هذه القصة الخبرية المهمة التى كتبها جاى فولكونبريدج، نكتشف أن التحديات الكبرى التى تواجهها المؤسسات الإخبارية، لا تأتى فقط من شركات التكنولوجيا العملاقة، لكن لأن أغلب الناس لا تريد الدفع مقابل القراءة على المواقع الإلكترونية. ويكشف أيضا بالأرقام والإحصائيات معلومات ذات دلالة، ومنها مثلا أنه لم تحدث سوى زيادة طفيفة فى نسبة الراغبين فى دفع المال مقابل القراءة، بل إن بعض المشتركين توقفوا عن دفع اشتراكاتهم. ومن يملك المال، فإنه يفضل أن يدفعه مقابل مشاهدة أفلام الفيديو أو سماع الموسيقى.
والنتيجة المتوقعة إذا استمر هذا السلوك فهو انهيار لبعض المؤسسات الإعلامية. وهناك قلة كانت تشترك فى أكثر من خدمة إخبارية، لكنها الآن تريد الاستمرار فى اشتراك واحد فقط. تفسير ذلك من وجهة نظر راسموس كلايس نيلسن مدير معهد رويترز، هو أن القراء، لا يجدون هذه الصحافة صادقة او جديرة بالثقة، أو حتى تنقلهم لمكانة أفضل.
سيقول البعض، لكن هناك إقبالا كبيرا حتى الآن على شراء بعض الصحف الكبرى، أو الاشتراك فيها، والطريف فى هذا الصدد أن ٤٠٪ من الاشتراكات الرقمية الجديدة، فى صحيفة مرموقة مثل النيويورك تايمز، كانت موجهة بالأساس للكلمات المتقاطعة، ووصفات الطبخ طبقا لإحصائية وردت فى موقع فوكس نيوز الإخبارى.
٧٪ فقط ممن هم تحت سن الخامسة والأربعين قالوا إنهم سيشتركون فى خدمات الحصول على الأخبار، فى حين اختار ٣٧٪ الفيديوهات و١٥٪ الموسيقى، علما بأن خدمة الأخبار مثلا هى مزيج مقدم من عدة صحف ومواقع إخبارية كبرى تتولاه «أبل نيوز بلاس». كما أن ثلث المشاركين فى استطلاع رأى بريطانى، قالوا إنهم يتحاشون الأخبار لأنها محزنة بسبب تداعيات «البريكست»!
المشكلة الكبرى أن الأخبار تواجه تهديدا متزايدا من مقدمى الخدمات الترفيهية مثل نتفليكس وسبوتفياى وآبل ميوزيك، وأمازون برايم، خصوصا وسط الأجيال الجديدة من الشباب الأصغر سنا.
تقرير رويترز يقول إن هناك بصيصا من الأمل فى الإعلانات ذات الربح المنخفض، التى ما تزال تتدفق على الصحف ومؤسسات الأخبار، ولهذا فهناك تقدير أن جانبا كبيرا من الأخبار سيظل مجانا، لكن بشرط أساسى أن يستمر تدفق الإعلانات التجارية.
السؤال: من يضمن ذلك؟! والإجابة لا أحد. قد يسأل البعض، وما علاقة كل ذلك بنا نحن فى مصر أو المنطقة العربية؟!
الإجابة محزنة وقاتمة. فإذا كان هذا هو حال مؤسسات الأخبار الورقية والرقمية فى أمريكا وبريطانيا والبلدان الغربية المتقدمة، فماذا سيكون عليه حالنا نحن فى المنطقة العربية؟!
فى الغرب هناك حريات بلا حدود، وموارد اقتصادية كبيرة، ورغبة فى القراءة بسبب وجود رأى عام حيوى ومؤثر، وصحافة تستطيع أن تنتقد الرئيس الأمريكى ليل نهار، ولا يمكنه حتى أن يمنعها من دخول البيت الأبيض، كما حدث قبل شهور فى واقعة مراسل الـ«سى إن إن».
فى الصحافة الغربية هناك تنوع كبير فى المحتوى، وجاذبية بلا حدود، وتنافس فى كل مجالات الحياة، من الأحزاب السياسية إلى الموضة إلى اختيار الديانات الوضعية الجديدة.
لكن كيف سيكون الحال لو طبقنا نفس المعيار على الصحافة فى مجتمعاتنا العربية، التى ما تزال تتقاتل على الهوية القبلية والطائفية، وكأننا ما نزال فى حروب القبائل الهمجية والوحشية؟!
المسألة صارت وجودية، وإذا كان القارئ أو المستهلك لا يريد أن يدفع اشتراكا للأخبار خصوصا القصص الخبرية التى يطالعها فى المواقع الإخبارية، فكيف يمكن للمؤسسة الصحفية أن تستمر، خصوصا إذا كانت مواردها الإعلانية محدودة؟!
إذا استمر هذا المنهج فى الغرب، وانتقلت عدواه للشرق، فالمؤكد أن غالبية المؤسسات الصحفية التقليدية ستضطر لإعلان إفلاسها، ولن يتبقى لنا إلا الصحف التى تمولها الحكومات فقط، وهى لا تستحق لفظ صحف، لأنها مجرد نشرات روتينية مملة لا يقبل عليها القراء ومصيرها الانقراض إن آجلا أو عاجلا.
أتمنى أن يشغل هذا الموضوع كل أصحاب الشأن فى الصحف العربية وأن ينشغل اتحاد الصحفيين العرب بالأمر حتى نجد طريقة للإفلات من هذه المصيدة الجهنمية، حتى لا نتفاجأ بالتلاشى عما قريب!