بقلم: عماد الدين حسين
من المناظر المألوفة فى السنوات الماضية، هى تظاهر مئات أو آلاف العاملين فى شركات الغزل والنسيج خصوصا فى المحلة الكبرى، للمطالبة بصرف العلاوات والأرباح.
الحكومات كانت وقتها تصرخ وتقول: كيف نصرف علاوات وأرباح والشركات تحقق خسائر قياسية كل عام؟!
لكن العمال ولجانهم النقابية كانوا يردون ويقولون إن بند الأرباح والحوافز صار جزءا أساسيا من الراتب، ولا نستطيع أن نعيش من دونه، وأن تخسير القطاع العام وإهماله ليس ذنبنا، بل بسبب السياسات الاقتصادية التى كانت تتعمد القضاء على هذا القطاع، خصوصا فى عصر حسنى مبارك، وبالأخص حينما كان عاطف عبيد، رئيسا للوزراء، الذى باع أصولا حكومية بتراب الفلوس، فى صفقات قالت أحكام قضائية إنها لم تكن بريئة من الفساد.
تلك هى وجهتى النظر، والمؤكد أن مصانع المحلة الكبرى كانت ملء السمع والبصر، والقطن المصرى كان يحتل مكانة مرموقة، والسؤال هو:
كيف كنا، وكيف أصبحنا، كيف كنا ملوك القطن وأصحاب أفضل صناعة للنسيج فى العالم، حتى وصلنا إلى أن نصبح سوقا للبالة القادمة من الصين وتركيا والهند وبنجلاديش وعدد كبير من بلدان العالم؟!
خطر فى ذهنى هذا السؤال وأنا أتجول داخل مجمع الشركة الوطنية المصرية للتطوير والتنمية الصناعية فى الروبيكى الذى افتتحه الرئيس عبدالفتاح السيسى صباح الثلاثاء قبل الماضى، المجمع نقطة ضوء وسط ظلام دامس يكتنف صناعة الغزل والنسيج فى مصر منذ سنوات، ومصمم ليصبح أول مدينة صناعية ذكية وفقا للمعاير القياسية العالمية.
طبقا لما قاله اللواء مصطفى أمين، مدير عام جهاز مشروعات الخدمة الوطنية بالقوات المسلحة، فإن الصناعة النسيجية تعد من الصناعات كثيفة العمالة ويعمل بها ١٫٢ مليون عامل يشكلون ٢٧٪ من حجم العمالة فى القطاع الصناعى، ويضم ١٣ ألف منشأة صناعية.
حتى بداية التسعينيات كانت الأرض المزروعة قطنا تصل إلى نحو مليون فدان، تقلصت الآن لـ٣٣٠ ألف فدان، وبالتالى كان طبيعيا أن ينخفض الإنتاج من نحو عشرة ملايين قنطار سنويا فى الثمانينيات، إلى أقل من مليونى قنطار نهاية عام ٢٠١٨، والنتيجة النهائية أن شركات الغزل والنسيج حققت خسارة وصلت إلى ٣٣ مليار جنيه، وتراكمت ديونها لتصل إلى ٨٦ مليار جنيه.
أسباب التراجع كثيرة ومتعددة، وربما يمكن اختصارها فيما اعترى العديد من مجالات الإنتاج فى مصر، وليس الغزل والنسيج فقط، هناك كما يقول اللواء مصطفى أمين ارتفاع تكلفة المواد الخام وتقادم العديد من وسائل وخطوط الإنتاج والمنافسة الشديدة من المنتجات المستوردة، وتراكم الخسائر والديون على بعض الشركات.
هناك نقطة ضوء تتمثل فى أن الدولة بدأت الاهتمام مرة أخرى بتطوير شركات الغزل والنسيج، خصوصا زيادة رقعة الأرض المزروعة قطنا، والمحافظة على السلالات المصرية المتميزة، ومنع محاولات تغيير أو محو الصفات الوراثية الجيدة لها، وإعادة هيكلة بعض الشركات، وتأهيل المحالج ومواجهة إغراق السوق المحلى بالمنسوجات المستوردة، والحد من تصدير خام القطن المصرى، حتى يمكن تعميق الصناعة فى هذا المجال وزيادة القيمة المضافة للقطن المصرى.
الرئيس السيسى أعلن يومها، أن الدولة ستطرح خطة طموحة لصناعة الغزل والنسيج، بحيث تصل إلى حصة صادرات صناعية بمائة مليار دولار على الأقل خلال السنوات المقبلة، وأن الدولة تنوى إنشاء العديد من المصانع فى المحلة الكبرى وإعادة تأهيل البعض الآخر حتى تعود لمكانتها القديمة، لكن بشرط تضافر جهود الجميع وكل العاملين والقائمين على الصناعة من خلال إعادة صياغة الأراضى الموجودة، حتى تساهم فى سداد المديونية والتى تقدر بـ ٥٠ مليار جنيه تقريبا.
وخلال عامين سوف يتم افتتاح مرحلة إحلال المصانع فى المحلة الكبرى وغيرها من المحافظات، ولن ينجح هذا الأمر إلا إذا قام كل فرد بدوره بمنتهى الجدية، فى حين أن أى خلل سوف يتراكم وينفى صفة الإدارة الاقتصادية عن المنشأة.
التحرك الحكومى الأخير مهم وجوهرى، لكن من الضرورى أن يكون متكاملا، ومستداما ويتضمن كل عوامل النجاح والاستقرار، إضافة إلى ضرورة تشجيع القطاع الخاص لكى يلعب دورا مهما فى إعادة قطاع الغزل والنسيج المصرى لمكانته القديمة والمتميزة.