من أسوأ الأخبار التى قرأتها فى الفترة الأخيرة، خبر نشره موقع «اليوم السابع» ظهر يوم الخميس الماضى ١٧ مايو الموافق أول شهر رمضان المبارك جاء فيه: «إن مجموعة من طلاب مدرسة سندسيس الإعدادية التابعة لمركز المحلة بمحافظة الغربية قاموا برشق المراقبين والمدرسين بالحجارة، لعدم تمكنهم من الغش فى امتحان مادة العلوم للمرحلة الإعدادية فى الفصل الدراسى الثانى.
وطبقا للخبر الذى كتبه الزميل مصطفى عادل فإن الهجوم أسفر عن إصابة مدرس اللغة الإنجليزية عطية رضوان، وتم إجراء خياطة أربع غرز فى رأسه، ونقله لمنزل عمدة القرية، الذى أمر بسرعة ضبط مرتكبى الواقعة وإخطار إدارة غرب المحلة التعليمية».
فى ظنى أن دلالات مثل هذا الخبر المفجع أسوأ مما نتخيل، وأخطر من أى مأساة، لأنها ببساطة تعنى أن الجهاز الأخلاقى لهؤلاء الشباب قد تدمر بالكامل، وبالتالى فعلينا ألا نستغرب إذا وجدنا هؤلاء وقد تحولوا إلى وحوش ضارية فى المستقبل.
أغلب الظن أن عددا كبيرا من هؤلاء الطلاب «الغشاشين» كانوا صائمين فى أول أيام شهر رمضان المبارك، والمؤكد أنهم من النوعية التى تربت على أن الدين مجموعة من الطقوس الشكلية، من دون أى مضمون، أى أن يمتنع عن الطعام والشراب، لكنه يغش ويسرق ويكذب ويدلس، ويبلطج ويعتقد أن ذلك من بين صحيح الدين!!!.
وللأمانة فإن ما فعله طلاب المرحلة، ليس جديدا أو مفاجئا بل هو حصاد سنوات طويلة من تراجع منظومة القيم بصفة عامة فى مجالات كثيرة.
حينما امتحنت الثانوية العامة صيف ١٩٨٢ بأسيوط، أذكر أن عددا كبيرا من أولياء أمور الطلاب حاولوا جمع مبالغ مالية للمراقبين القادمين من خارج المدينة لكى يتم تجهيز وجبات ومآدب طعام عامرة، فربما يحن قلب هؤلاء المراقبين، فيقوموا بتسهيل الأمور داخل اللجنة!!!.
هذا النمط بدأ يتطور، حتى وصل فى السنوات التالية، إلى وقوف العديد من أولياء الأمور حاملين الأسلحة المختلفة ومنها الآلية غير المرخصة أمام لجان الامتحانات، خصوصا الثانوية العامة، لإرهاب المراقبين، حتى يتساهلوا ويسمحوا بالغش.
ثم وصلنا الآن إلى النسخة الأحدث التى تتواكب مع تطور العصر وهى صفحات الغش الإلكترونى المختلفة، والتى يراها البعض دليلا على الشطارة والفهلوة والقدرة على كسر وتحدى القوانين.
زمان كان الغشاشون يخجلون من الغش، ويمارسونه سرا، الآن للأسف صار التبجح هو الأصل، لأن جزءا كبيرا من ثقافة المجتمع تشجع على ذلك!!.
نتحدث كثيرا عن الأخلاق وننتقد انتشار الواسطة والمحسوبية. لكن معظمنا لا يطبق ذلك، حينما يصطدم به. ولى الأمر ينتقد الحكومة لأنها غير عادلة. حسنا ربما كان محقا، ولكنك تشجع ابنك أو ابنتك على الغش فى الامتحان، فما هى القيم التى سوف ينشئون عليها؟!.
معظم أولياء الأمور يلجئون إلى الواسطة والمحسوبية من أجل إلحاق ابنائهم بكليات معينة، أو بمهن محددة. حينما يفعلون ذلك، فإنهم يحرمون شخصا أو أشخاصا مستحقين من الحصول على فرصتهم العادلة.
هذا التلميذ الذى رشق المراقبين بالحجارة يوم الخميس قبل الماضى حينما يكبر، سيكون ذلك الموظف الذى يتلقى الرشوة ويضعها فى درج مكتبه سواء كانت عشرين جنيها أو عشرين مليونا. ثم يذهب لإدارة صلاة الظهر أو العصر فى مسجد المؤسسة التى يعمل بها. هو المدرس الذى لن ينقل لتلاميذه أى قيم أخلاقية. هو المهندس ــ إذا فلح ــ الذى سيغش فى مواد البناء، أو يعطى رخصا لأصحاب العمارات المخالفة. هو المواطن البذىء الذى سيقوم بسب الدين والتلفظ بالألفاظ النابية فى الشوارع والتحرش بالسيدات.
الموضوع أخطر مما نتخيل، ولا يمكن تصور أن نتقدم من دون وجود منظومة من القيم والأخلاق والآداب العامة.
هذا الموضوع لن تحله الشرطة أو القوانين فقط، بل أن يؤمن المجتمع بأكمه أنه لا أمل فى أى شىء من دون وجود القيم، وإلا فإن البديل هو التحول إلى غابة، ووقتها لن تفلح كل المشروعات الكبرى فى ظل غياب بناء البشر.
نقلًا عن الشروق القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع