مساء الجمعة الماضية، تلقيت العديد من الإشارات والإخطارات والرسائل من زملاء على مواقع التواصل الاجتماعى، يدعون فيها إلى سرعة الدخول إلى موقع «روسيا اليوم»، والتصويت فى استطلاع رأى وضعه الموقع يقول: «حلايب.. هل هى أرض مصرية أم سودانية؟!».
بعدها بقليل، وجدت أحد الزملاء يتعجب من عدم قيام كثير من المصريين بالمشاركة فى التصويت، ويحض الجميع على ذلك، حتى لا يتصور الآخرون أنها سودانية.
كان الأمر غريبا ومريبا أن يلجأ موقع «روسيا اليوم» إلى وضع هذا السؤال المستفز.
وكما نعرف تطور الموضوع بسرعة، وشهدنا انتفاضة مصرية شاملة: من وزير الخارجية سامح شكرى الذى أوقف عمل حوار مع القناة كان مخصصا له صباح السبت، إلى ضياء رشوان رئيس الهيئة العامة للاستعلامات، إلى عبدالمحسن سلامة نقيب الصحفيين والعديد من النواب والإعلاميين وكبار المسئولين. وجاءت الاستجابة الروسية سريعة، وتم سحب الاستطلاع، والاعتذار عنه.
السؤال: هل كان علينا أن نغضب إلى هذا الحد، بشأن سؤال عابر، على موقع إلكترونى؟!
الإجابة: نعم، لأن الدنيا تغيرت، وأدوات السياسة اختلفت وتبدلت. هكذا علينا أن نتعامل مع ظاهرة جديدة فى الإعلام والسياسة، اسمها استطلاعات الرأى الإلكترونية السريعة، والعابرة للحدود والسيادة. فى الماضى كان يمكننا أن نمنع مراكز بحوث الرأى العام الأجنبية أو حتى المحلية من إجراء استطلاع حول أى ظاهرة.
الآن اختلف الوضع تماما، وصار بمقدور أى موقع إلكترونى صغيرا كان أم كبيرا، من وضع سؤال بسيط على صفحته الأولى عن أى موضوع يمكن أن يخطر على البال من أول: أى فرق الكرة تشجع؟ نهاية بـ: الفرق بين العقائد والأديان.
هذه الظاهرة الجديدة، لجأت إليها بعض المواقع لزيادة إقبال القراء عليها، أو نسبة الترافيك، أو للإثارة أو للحصول على عائد مادى.
بعض المواقع التابعة لدول، تضع مثل هذه الأسئلة لقياس الرأى العام فعلا، ومعرفة اتجاهات الناس بشأن قضية معينة، لكن الأخطر، فى الموضوع على الإطلاق أن هذه الاستطلاعات غير علمية بالمرة، وبالتالى فإنها تهدف فى لحظات كثيرة إلى خلخلة الرأى العام وتحويل آرائه فى اتجاه معين.
نتذكر جميعا أن العديد من المسابقات فى القنوات التلفزيونية صارت تعتمد على التصويت الإلكترونى القائم على الحشد والتعبئة فى الاتصال. ونتذكر كيف كانت الدعوات إلى مثل هذا الحشد فى مسابقات غنائية ورياضية وأدبية. وكيف أن دولا بكاملها كانت تحتشد للتصويت لمطرب شاب ضد مطرب آخر من بلد شقيق مجاور.
النجم المصرى البارز محمد صلاح حصد بعض الألقاب، بفعل الإقبال غير المسبوق للمصريين للتصويت فى هذه المسابقات. هذا الأمر ليس عيبا، لأنه أحد العوامل لقياس شعبية هذا النجم أو ذاك الفنان، لكن القياس الحقيقى بالطبع لنجومية صلاح هو أداؤه فى الملعب.
لكن إذا صح الأمر فى الكرة أو الغناء والفن عموما، فهو لا يصح فى تقرير مستقبل قضية سياسية ملتهبة مثل حلايب. بالطبع نتيجة التصويت لن تحسم هذه القضية. لكنها قد تحاول خلق رأى عام أو تغييره، خصوصا أن السودان الشقيق لا يتوقف عن إثارة القضية طوال الوقت فى كل المحافل.
مرة أخرى فكرة التصويت الإلكترونى يمكن التنبؤ بها إذا علمت اسم الموقع الداعى إليها. تخيل أن موقع قناة النادى الأهلى وضع سؤالا يقول: ما هو أهم ناد فى مصر؟! الإجابة ستكون محسومة سلفا لأن غالبية المترددين على هذا الموقع من مشجعى الأهلى. وإذا وضعنا نفس السؤال على موقع مجلة الزمالك، ستكون الإجابة أيضا بأن الزمالك هو الأفضل وهكذا.
قولا واحدا، هى استطلاعات غير علمية بالمرة، وتستند إلى العواطف والمواقف المسبقة، وليس على القواعد والشروط والمعايير الصارمة التى نعرفها عن الاستطلاعات والبحوث العلمية.
ما علينا أن نفكر فيه هو الآتى: إذا كانت «روسيا اليوم» استجابت للغضب المصرى ورفعت الاستطلاع من على موقعها، فماذا سنفعل إذا قامت مواقع دولية أو عربية أخرى لا نملك عليها تأثيرا بعمل استطلاعات مشابهة؟!.
السؤال ليس افتراضيا، بل حدث بالفعل ورأينا أسئلة أكثر استفزازا على العديد من القنوات والمواقع المعادية للحكومة المصرية، ومر الأمر من دون أن يلتفت إليها أحد بالمرة.
الدرس الذى نخرج به من استطلاع «روسيا اليوم» هو ضرورة الإيمان بأن تغير أدوات وآليات السياسة، يحتاج إلى تغيير العقليات والذهنيات وسرعة التفاعل مع العصر الجديد.
نقلا عن الشروق القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع