بقلم: عماد الدين حسين
إذا كانت إثيوبيا هى آخر دولة يحق لها التعليق على ملف حقوق الإنسان فى مصر بسبب سجلها المشين فى هذا المجال، فما الذى يدفع المتحدث باسم وزارة خارجيتها دينا مفتى، لأن يتجرأ، ويعلن أن مصر تصعّد فى ملف سد النهضة لكى تستعمله شماعة، تعلق عليه مشاكلها الداخلية ومنها حقوق الإنسان؟!
فى مقال الأمس تحدثت بإسهاب عن ملف حقوق الإنسان المتردى فى إثيوبيا، واليوم نحاول أن نفهم الدافع الحقيقى من وراء هذه التصريحات الإثيوبية الرسمية.
ظنى الشخصى وأتمنى أن أكون مخطئا، هو أن الحكومة الإثيوبية تريد أن تضرب «كرسى فى الكلوب»، وتبعث لمصر، ولكل من يهمه الأمر رسالة واضحة، بأنها لا تريد استمرار المفاوضات، وفرض أمر واقع على مصر.
من يتابع الطريقة الإثيوبية فى التعامل مع مصر يدرك أنها جربت كل الحيل وأساليب المكر والدهاء والمراوغة والاستكانة والتقية.
لكن الرسالة الأخيرة هى مزيد من البلطجة والفتونة والاستهتار.
قبل ٢٠١١ لم تجرؤ أديس أبابا على بناء السد لأن مصر كانت تظهر لها دائما «العين الحمرا»، وبعد أقل من شهرين على ثورة يناير من نفس العام، أعلنت عن البدء فى بناء سد الألفية أو النهضة. ثم أدخلتنا فى متاهة تفاوضية لمدة زادت على تسع سنوات. كانت دائما تقول إنها لن تضر بمصر مطلقا، ولن تؤثر على حصتها فى مياه النيل. وفى يوليو الماضى أنهت هذه المسرحية، حينما أعلنت عن الملء الأول لسد النهضة بصورة منفردة.
يومها قال وزير خارجيتها السابق جيدو أندار جاشيو يوم ٢٢ يوليو الماضى على تويتر: «كان اسمه نهر النيل وأصبح النهر بحيرة، ستحصل منه إثيوبيا على التنمية التى تريدها.. فى الواقع النيل لنا».
هذه عبارة كاشفة عن النوايا الحقيقية لإثيوبيا، وكنت أتمنى وقتها أن يكون هناك موقف مصرى أكثر صلابة، فى الرد على التعنت الإثيوبى، خصوصا أنها واصلت العبث التفاوضى بلا كلل أو ملل.
مرة أخرى لماذا خرج دنيا مفتى ليقول ما قاله عن ملف حقوق الإنسان فى مصر؟!
أظن أن إثيوبيا استهلكت كل الحيل والأكاذيب التفاوضية، وللأسف ساعدتها جنوب إفريقيا فى ذلك من خلال ترؤسها للاتحاد الإفريقى، وإجهاض تحويل الملف بالكامل لمجلس الأمن. جوهانسبرج قالت لنا وقتها بعد أن ذهبنا لمجلس الأمن: «لماذا لا تجربون الحل الإفريقى أولا؟!». نحن استجبنا وذهبنا وللأمانة لم يكن لدينا بديل وقتها، حتى لا يبدو أننا ننسلخ من الانتماء الإفريقى، خصوصا أن مصر كانت تترأس الاتحاد حتى آخر يناير الماضى.
الكونغو الديمقراطية يفترض أنها سوف ترأس الاتحاد نهاية هذا الشهر، وموقفها سيكون أفضل كثيرا من جنوب إفريقيا، حيث إنها تتفهم الموقف الكامل، ولن تكون منحازة لأى طرف، ثم إن السودان اكتشف اللعبة الإثيوبية، وطالب بتغيير المنهجية التفاوضية. ثم إنها حاولت احتلال أراضٍ سودانية قبل أسابيع، وتحرك الجيش السودانى، واسترد هذه المناطق فى «الفقشة»، وأدانت مصر مصرع ٥ جنود وضباط سودانيين بنيران القوات والميليشيات الإثيوبية.
سبب آخر يدفع أديس أبابا للتصعيد مع مصر، أنها لم تحسم حتى الآن ملف الصراع مع إقليم التيجراى المتمرد، وقادة الإقليم لا يزالون يشنون حرب عصابات. وبالتالى فإنها تحاول بكل الطرق «جر الشكل» مع مصر واستفزازها بحيث توهم شعبها بأن هناك صراعا خارجيا فى مصر، علما بأن سد النهضة يشكل عامل توحد بين كل مكوناتها القومية شديدة الهشاشة.
مصر تتعامل مع ملف سد النهضة بهدوء أعصاب منقطع النظير منذ عام ٢٠١١، وأثبتت حسن نية شديدا جدا حتى عندما قال الرئيس الأمريكى دونالد ترامب إن من حق مصر تفجير سد النهضة بسبب التعنت الإثيوبى، لم تعلق مصر إلا بعبارات الود والأخوة مع إثيوبيا مع تمسكها بحقها المتمثل فى ضرورة التوصل لاتفاق قانونى وملزم بشأن السد.
أظن أن علينا فى مصر أن نتوقف قليلا ونعيد تقييم الموقف بالكامل، وألا نستمر فى «هذه المفاوضات العبثية»، وأن نبحث فى العديد من الخيارات المتاحة، بحيث تصل رسالة لأديس أبابا، بأنها ستدفع ثمنا فادحا ــ إن آجلا أو عاجلا ــ بسبب طريقتها الخبيثة، وإصرارها غير المبرر على تعطيش مصر، مما سيؤثر ليس فقط على اقتصادنا ومواردنا، بل على حياة ووجود مواطنينا.
حان وقت مواجهة «اللعبة الإثيوبية الشريرة» سواء بالاقتصاد أو السياسة أو التحالفات، أو أى وسيلة تحافظ على حقنا الكامل فى مياه النيل.