قبل أسابيع كانت وزارة التضامن الاجتماعى تقوم بعملية التحقق من سلامة البيانات فى برنامجى تكافل وكرامة عبر ربطها ببيانات الموظفين، وخلال هذه العملية تم اكتشاف أن هناك موظفين قاموا بتزوير شهادة إعاقة لأبنائهم كى يحصلوا على معاش كرامة وتكافل.
الوزيرة النشيطة جدا غادة والى قالت لى: لن أترك هؤلاء المزورين الجبارين، وسوف أخصم منهم كل مليم بل سوف أقوم بجمع شهادات ميلاد أبناء كل الموظفين وعددهم ١٤٠ ألف شخص وكذلك بيانات زوجاتهم.
هذا التزوير يكشف عن أن نماذج الاحتيال والنصب والهمبكة عند بعض المواطنين لا يمكن تخيلها، ولابد من وجود جرأة وشجاعة لنقد بعض هذه السلوكيات، إذا كنا نطالب بمكافأة المجيدين والمتفوقين، فعلينا أن نطالب بمعاقبة المقصرين والمحتالين.
أعود مرة أخرى إلى الكوميديا السوداء التى يلجأ إليها بعض المواطنين. وهذه المرة من إحدى قرى محافظة البحيرة، وبها بيت متهالك وشديد التواضع، يتم تأجيره للأسر الراغبة فى الحصول على معاش تكافل وكرامة. هذا البيت يتم فيه استقبال الباحث الذى يكتب التقرير بأن الأسرة معدمة، وحالها شديد البؤس!!!.
عرفت أيضا أن هناك سيدات تقمن باستئجار رجل ليقوم بدور الزوج، إذا كان زوجها يعمل بالخارج، ويدخل معها إلى الوحدة حاملا بطاقة الزوج التى تركها للزوجة.
الفهلوة والنصب لا يتوقفان عند بعض المواطنين، فهما يمتدان أيضا لبعض موظفى القوميسيون الذين يكتبون «تقارير مضروبة». وما عرفته أن الوزيرة أحضرت خبراء لوضع تصور وهيكل محكم يقضى على الثغرات.
من حسن الحظ أن غادة والى تعمل بهمة ملحوظة وضمير يقظ، وهى ترى أن كل عمليات التحايل والتزوير لا تتعدى نسبة الـ٥٪، إضافة إلى أن هناك عملية ضبط ومراجعة شهرية مستمرة للجميع. وتقديرها أن أفضل ما تم فى هذا الصدد هو «لجان المساءلة المجتمعية من أبناء القرية وأعيانها الذين يقومون بالمراجعة وراء موظفى الوزارة أنفسهم، لكشف وفضح أى فساد، وإعادة كل قرش أخذه غير مستحق».
خلال حديثى مع الوزيرة غادة والى الذى جرى فى دار الأوبرا قبل أيام، قالت لى إنها تقر بأن الفاسدين مبدعون.
وإذا كانت المراقبة شديدة فى وزارة التضامن، فهل هى كذلك فى بقية الوزارات والمؤسسات؟
وهل هناك مسئولون فى كل موقع بنفس همة ويقظة غادة والى؟!
بالطبع هناك الكثير من ذوى الكفاءة والضمير، لكن المشكلة تكمن أكثر فى «السيستم»، الذى يهزم الكثير من ذوى النوايا الحسنة.
الفساد لا يحدث من تلقاء نفسه، ولكنه يحتاج أولا إلى فاسدين أو أشخاص طيبين لكنهم قابلون للإفساد، وثانيا، يحتاج إلى ثغرات قانونية وتشريعية ينفذ منها. وهنا تكمن المأساة، فقد يكون لديك أفضل الموظفين وأكثرهم إخلاصا واستقامة ونزاهة، لكن الثغرات القاتلة تجعل سرطان الفساد يتوغل فى دهاليز هذه المنظومة الخربة. وعلينا ألا ننسى أن البعض يلجأ للتحايل لأنه فقير جدا ولم يتمكن من الحصول على حقه المشروع.
قبل شهور كتبت عن الحيل الجهنمية التى يلجأ إليها بعض المواطنين للحصول بدون وجه حق على معاش تكافل وكرامة، انطلاقا من حكاوى سمعتها من بعض أبناء مركز القوصية بمحافظة أسيوط خلال قضائى إجازة عيد الأضحى هناك.
بعد النشر اتصلت بى الدكتورة غادة والى، وشرحت لى باستفاضة آلية الحصول على المعاش، وكذلك الوسائل التى تضمن سد الثغرات، وللأمانة، فقد كانت مهتمة جدا بالموضوع وطلبت منى أن أبلغها بالحالات التى تستحق الحصول على المعاش وتعرضت للظلم.
الفساد سوف يستمر لأنه من طبيعة البشر، لكن شرط أن نبذل كل الجهود لمحاربته، وجعله فى حدود النسب الدنيا جدا مثلما هو حادث فى بلدان العالم المتقدم.
التجربة التى طبقتها دكتورة غادة والخاصة باللجان الشعبية المجتمعية وسيلة قد تكون حلا عبقريا، ليس فقط للقضاء على التحايل فى معاش كرامة وتكافل، ولكن فى مجالات كثيرة خصوصا فى الريف. على سبيل المثال قضية تنقية بطاقات التموين، ومن الذى يستحق، ومن الذى لا يستحق، وقضية الفساد فى المحليات، والغش فى السلع التموينية أو بعض محطات الوقود، وقضايا أخرى كثيرة لا تحل بتشديد العقوبات فقط، ولكن بالرقابة المجتمعية.
الموضوع ليس سهلا لأنه نتاج عقود من الإمال وتراكم الفساد، لكن التجربة جديرة بالبحث والنقاش علها تمثل مخرجا من أزماتنا.
نقلا عن الشروق القاهرية