بقلم: عماد الدين حسين
أتمنى ألا يخطئ العرب فى ليبيا، كما فعلوا مع العراق بعد الغزو الأمريكى الهمجى فى مارس ٢٠٠٣.
فى هذا الوقت فإن الحكومات ومعها الأحزاب والقوى السياسية والمجتمع المدنى العربى، ارتكبوا خطأ قاتلا، حينما اعتقدوا أن الذهاب للعراق هو مشاركة فى جريمة الغزو والاحتلال الأمريكى البريطانى. وكانت النتيجة العملية هى أننا كعرب، تركنا العراق، لتمرح فيه إيران، وتحوله للأسف إلى ما يشبه محافظة إيرانية، ويسعى كثيرون الآن فى العراق والمنطقة إلى مساعدته على التخلص من هذه الهيمنة.
والآن فإن الرئيس التركى رجب طيب أردوغان يسعى لتكرار السيناريو الإيرانى فى ليبيا، وسمعناه يتحدث ويكرر منذ شهور عن «إرث أجداده العثمانيين» فى ليبيا.
ورأيناه يرسل الجنود والخبراء والمرتزقة، من كل حدب وصوب لتتريك ليبيا ومحو وجهها العربى والسيطرة على مواردها خصوصا النفط والغاز. وللأسف ما كان يمكنه ذلك لولا وجود عملاء ومستفيدين فى داخل ليبيا. سوء إدارة العرب للأزمة الليبية منذ عام 2011، والتأخر فى التدخل العربى الفاعل، سمح لتركيا بتثبيت أقدامها وأقدام عملائها وميليشياتها هناك. ولولا إعلان مصر فى الصيف الماضى عن «خطها الأحمر فى سرت والجفرة»، لربما تمكنت ميليشيات أردوغان من الوصول إلى الحدود المصرية، وابتزاز مصر بالعمليات الإرهابية، كما رأينا بالفعل فى السنوات الماضية.
كان يفترض بالعرب، خصوصا الأطراف ذات الصلة ألا يسمحوا بتدمير ليبيا، كما حدث بالفعل بدءا من تأييد أطراف عربية لعدوان الناتو عام ٢٠١١، ونهاية بدعم الميليشيات الظلامية حتى هذه اللحظة.
كنت أتمنى كما يتمنى كثيرون أن يتم حسم المعركة عسكريا، وتخليص ليبيا من الميليشيات والإرهابيين والمتطرفين، لكن العملية التى بدأت فى إبريل ٢٠١٩، وحاولت تحرير طرابلس، لم يكن مخطط لها جيدا، وجرت على عجل وبطريقة عنترية غير محترفة، والنتيجة أنها تعثرت، وتمكنت الميليشيات المدعومة من تركيا، من السيطرة على كل مدن الغرب إضافة إلى طرابلس، بل وتهديد سرت والجفرة.
الجانبان فى الشرق والغرب، ومعهما اللاعبون الإقليميون والدوليون، توصلوا إلى قناعة باستحالة الحسم العسكرى، ولذلك جرت محاولات للحل السياسى فى أكثر من مدينة من برلين إلى باريس وموسكو مرورا بالغردقة والدار البيضاء وتونس نهاية بغدامس وسرت.
كانت هناك آمال كثيرة بأن تفيق الأطراف الليبية، وتقتنع أن غالبية الخارج، لا يريد لهم خيرا، بل تحويلهم إلى حلبة ومسرح وساحة فى لعبة صراع إقليمية ودولية متشابكة.
وخلال الشهور الستة الماضية، اكتشف كثيرون أن تركيا، لن تقبل بأى حل سياسى عادل ومنصف لأنه سيحرمها من كل «الأوهام» التى حلمت بها فى تحويل ليبيا إلى رأس جسر لاختراق المغرب العربى، ومحاصرة مصر، انتقاما منها لما فعلته فى ٣٠ يونيو ٢٠١٣.
ليس من مصلحة مصر القومية أن يستمر الصراع إلى ما لا نهاية، لأنه يتيح للأتراك والقوى الدولية الأخرى تثبيت أقدامهم أكثر، بل ويعطى قبلة الحياة للتنظيمات الميليشياوية، التى يفترض أن تتفكك مع أى تسوية سياسية حقيقية، وانطلاقا من هذا التصور يمكن فهم الخطوة المصرية باتجاه إرسال وفد سياسى وأمنى قبل أيام إلى طرابلس والتباحث مع حكومة الوفاق التى يرأسها فايز السراج، ويلعب فيها وزير داخليته فتحى باشاجا دورا محوريا.
مصر تراهن على جر وإقناع غالبية أطراف «الوفاق» بأن مصلحتهم العليا ومصلحة بلدهم فى وجود حل عربى، وعلاقات قوية ومستقرة مع مصر وسائر محيطهم العربى.
المبادئ المصرية واضحة منذ سنوات، وهى دولة ليبية مدنية موحدة وجيش وطنى موحد ومؤسسات موحدة، ولن يتم ذلك إلا بتفكيك الميليشيات، التى بدأت تتصارع بالفعل فيما بينها، بعد أن توقف إطلاق النار فعليا الصيف الماضى، ورسميا فى أكتوبر الماضى.
لو تمكنت مصر ومعها الأشقاء والمهتمون بالملف الليبى من إقناع الأطراف العاقلة فى الوفاق بهذا التصور فسوف تكون فرصة كبرى لإفشال المخطط التركى وبدء مرحلة جديدة شعارها إعادة بناء ليبيا على أسس وحدوية ديمقراطية مدنية.
لكن السؤال الجوهرى: هل ستقبل تركيا هذا التطور، وهل ستقبل الميليشيات أن تفكك نفسها، وهل ستقبل بعض الأطراف الدولية الفاعلة الخروج من «المولد الليبى بلا حمص؟»
أشك كثيرا.. لكن لابد من المحاولة.