هذا ليس حديثاً عن الكرة والرياضة، ولكنه عن القيم والأخلاق والمبادئ والرضا والقناعة، التي نقول عنها دائماً إنها كنز لا يفنى.
منذ تم الإعلان عن تجديد عقد النجم الدولي المصري الكبير محمد صلاح مع ناديه ليفربول الإنجليزي بمبلغ 350 ألف جنيه استرليني في الأسبوع الواحد لمدة ثلاث سنوات، وبعض نقاشات وسائل التواصل الاجتماعي المصرية والعربية لا تركز حول كفاءة واستحقاق الرجل، بل تدور في غالبها حول هذا المبلغ الكبير بصورة تضع أصحابها في خانة الحاسدين الطامعين.
الكثيرون ولا أقول الجميع استخدموا الآلة الحاسبة الموجودة على هواتفهم المحمولة ليحسبوا ويترجموا هذا المبلغ إلى جنيهات مصرية، ثم ليقسموا المبلغ على السنة والشهر والأسبوع واليوم والساعة والدقيقة، ليقولوا في النهاية إن صلاح يتقاضى كذا في الساعة أو اليوم. لا أقول إن هذا سلوك جميع المصريين، فهناك جانب معتبر من المصريين سعيد لتجديد عقد صلاح، ولا ينظر إلى هذه الزاوية الوحيدة وهى حجم العقد، لكن هذا سلوك شريحة كبيرة صار ينتشر بسرعة وبصورة ملموسة ونراه كثيراً على وسائل التواصل الاجتماعي. هذه السلوكيات تدعو للقلق والخوف من المستقبل إذا كان هذا هو تفكير جانب كبير من الناس خصوصاً الشباب. هو سلوك يدعو للقلق لأنه يتعامل مع محمد صلاح، وكأنه حصل على هذه الأموال الجيدة مجاناً أو بالصدفة أو بسهولة.
هو سلوك خطر لأنه يصور لأصحابه أن المكسب والربح سريع وسهل ومن دون مجهود أو تعب.
محمد صلاح نموذج ملهم للشباب ليس فقط المصري أو العربي، بل والعالمي، ورأينا العديد من الشباب الإنجليز يؤلفون له الأناشيد ويهتفون باسمه «مو»، بل رأينا أطفال الإنجليز يقلدونه وهو يسجد عقب تسجيل أي هدف.
الإلهام الحقيقي لمحمد صلاح، ليس فقط لأنه لاعب ماهر أو أنه حقق العديد من البطولات مع الأندية التي لعب لها خصوصاً ليفربول، أو لأنه هداف الدوري الإنجليزي لثلاثة مواسم متتالية، ولكن أيضاً لأنه قصة إنسانية ملهمة بعيداً عن الكرة والملاعب والمستطيل الأخضر.
الذين شغلهم فقط الراتب الذي حصل عليه صلاح في العقد، عليهم أن ينشغلوا أكثر بالقصة الطويلة التي جعلت صلاح يصل إلى هذه المكانة المتميزة.
صلاح روى في أحاديث كثيرة قصة كفاحه الطويلة قبل احترافه في نادي بازل السويسري العام 2012. قبل هذا التاريخ كان صلاح يلعب لنادي «المقاولون العرب» المصري، وحينما بدأ حياته الكروية في هذا النادي كان يركب أربع أو خمس مواصلات من قريته نجريج إلى مركز بسيون بمحافظة الغربية، ومنها يركب أتوبيس إلى محطة الأتوبيسات الرئيسية شمال القاهرة، ومنها إلى ميدان رمسيس، ثم إلى نادي «المقاولون العرب» في الجبل الأخضر قرب ميدان العباسية شرق القاهرة.
قبل أن يصير صلاح لاعباً أساسياً في «المقاولون العرب» لم يكن صلاح يملك الكثير من النقود في ذلك الوقت، وكان يركب الميكروباصات وأتوبيسات النقل العام. وما يزيد معه من مصروف قليل حصل عليه من والده، كان يشتري به طبقاً من الكشري، وهي وجبة شعبية خفيفة جداً على حد ما روى في أحاديثه. هذه الرحلة الصعبة استمرت سنوات، حتى أثبت نفسه في «المقاولون»، وتم تصعيده للفريق الأول.
حينما سافر صلاح إلى سويسرا ليلعب مع بازل، تدرب واجتهد وتعب، ودرس لغات كل الدول التي لعب فيها، وأجاد بعضها خصوصاً الإنجليزية والإيطالية، لم يفعل كما فعل العديد من المحترفين العرب الذين انشغلوا بالأضواء والسهرات والشهرة والأموال والنساء، بل ركز فقط في التدريب وتطوير نفسه حتى يكون متميزاً.
وحتى بعد أن صار نجماً عالمياً وواحداً من أهم ثلاثة لاعبين في العالم، لم يصبه الغرور، وانشغل فقط بالحفاظ على صحته ومستواه، خصوصاً فيما يتعلق بالأكل الصحي والنوم. ثم إنه إنسانياً شديد الكرم مع أهله في القرية ومع مصر عموماً، ويعلم الجميع أنه يتبرع بصورة مستمرة للعديد من الجمعيات الخيرية.
هذه السلوكيات المتميزة هي التي أوصلت صلاح إلى هذا المستوى المتميز، ومن هنا حصل على هذا العقد الذي يعتبر الأكبر في تاريخ نادي ليفربول.
وبالتالي فعلى الذين يحسبون كم يجني صلاح في اليوم أو الشهر أو السنة، عليهم أولاً أن يتدبروا رحلة كفاحه ويقلدونه في هذا المشوار، ولا ينظرون فقط إلى المشهد الأخير في الرحلة.
نتمنى أن يفيق بعض الشباب المصري والعربي من هذه الطريقة التي تحسد كل ناجح ومتفوق وغني، وأن يتدبروا في الكيفية التي جعلته يحقق هذا النجاح الكبير.
لو حدث ذلك، فسوف نجد المئات والآلاف وربما ملايين النماذج من محمد صلاح في مجالات كثيرة، وليس فقط في ملاعب الكرة، وبالتالي سيتوقف هؤلاء عن نظرات وسلوكيات الغل والحسد والطمع والجشع.