هل يمكن لمحكمة عليا أو دستورية فى بلد نامٍ بالعالم الثالث، أن تنحاز فى بعض أحكامها ضد رئاسة الدولة وقيادة القوات المسلحة، وتحكم لمصلحة نشر أوراق سرية ضد الرئيس وقادة الجيش أثناء حرب خارجية؟!.
مناسبة هذا السؤال الشائك هو فيلم «ذا بوست»، حينما حكمت المحكمة العليا الأمريكية عام ١٩٧١ لصالح صحيفة «الواشنطن بوست» وبقية وسائل الإعلام، بحقها فى نشر الأوراق السرية الخاصة بوزارة الدفاع الأمريكية «البنتاجون» التى تكشف أن الرؤساء الأمريكيين طوال أربع فترات رئاسية متعاقبة، قد كذبوا على الشعب الأمريكى بشأن تطورات الوضع العسكرى المتردى فى حرب فيتنام.
المنطقى أن أى صحفى فى العالم الثالث يشاهد هذا الفيلم، سوف يتحسر كثيرا، وهو يرى انحياز أعلى محكمة فى البلاد لمصلحة الإعلام على حساب الرئيس والجيش، أو بالأحرى الانحياز لمصلحة الوطن، باعتبار أن التعديل الأول فى الدستور يقول «إن الطريقة الوحيدة لحماية حقوق النشر هى النشر»، كما جاء فى مقدمة الفيلم.
لكن المنطقى أيضا أن أى مسئول حكومى فى العالم الثالث إذا شاهد الفيلم، فسيقول إنه من الظلم والإجحاف إجراء المقارنة بين العالمين المختلفين اللذين يسيران فى اتجاهين متناقضين لا يلتقيان أبدا للأسف!!.
الفيلم نفسه يقول إنه حتى فى الولايات المتحدة لا توجد مثالية، وإن الصراع بين السلطة والإعلام موجودة طوال الوقت، وعلى حد تعبير كاترين جراهام، ناشرة ومالكة الواشنطن بوست والتى قامت بدورها الفنانة القديرة ميريل شيريب: «من الصعب قول لا للرئيس الأمريكى».
وفى مشهد آخر من الفيلم يهدد وزير الدفاع الأمريكى القوى والمتنفذ روبرت ماكنمارا صديقته جراهام بأن الرئيس نيكسون سوف يسحقها هى وصحيفتها من الوجود إذا نشرت الأوراق السرية!!.
الفارق الأساسى بين الولايات المتحدة وبعض الدول الغربية من جهة وبين غالبية العالم الثالث من جهة أخرى، هى وجود الرأى العام القوى والمؤسسات المدنية المستقلة، وبالتالى فهناك توازن دقيق جدا يجعل كل طرف لا يحاول ولا يستطيع إلغاء وسحق الآخر.
السلطة فى كل مكان وزمان تسعى طوال الوقت لإسكات الإعلام، ومثال دونالد ترامب ماثل أمام أعيننا الآن. هو يتمنى ويحلم بأن تختفى الصحافة المناهضة له من الوجود، وفى مقدمتها صحيفة الواشنطن بوست نفسها، ومعها النيويورك تايمز والعديد من المحطات الفضائية مثل سى إن إن. الذى يحمى الإعلام من هذه السلطة الغاشمة لترامب، وجود المؤسسات والنقابات والهيئات واللوبيات ومنظمات المجتمع المدنى والرأى العام الناضج، وقبل كل ذلك هناك كونجرس به توازن كبير، ووسائل إعلام لا يستطيع البيت الأبيض أن يتحكم فيها.
إذًا الاعتقاد بأن استنساخ التجربة الأمريكية يمكن أن يحدث اليوم أو غدا فى أى دولة بالعالم الثالث، لمجرد أنهم يتمنون ذلك، هو ضرب من الخيال والأوهام.
القاعدة الأساسية أن الديمقراطية وشيوع الحريات لا تتحقق لمجرد أن بعضنا يريد ذلك، بل لابد من وجود أساس حقيقى على الأرض يضمن تحققها.
من حق الحالمين أن يحلموا باستنساخ التجربة الأمريكية، لكن عليهم أن يفيقوا ويفكروا فى بناء مؤسسات مدنية فاعلة على الأرض.
ولكى تصل إلى هذا النموذج، ينبغى أن يكون لديك أولا أحزاب وقوى سياسية حقيقية وغير كرتونية، تعبر عن قوى اجتماعية واقتصادية. وينبغى أن يكون لديك مؤسسات مجتمع مدنى قوى، أى نقابات وهيئات ومنظمات قوية. ولكى يحدث كل ما سبق ينبغى أن يكون لديك تعليم متقدم، وحد أدنى من الاقتصاد القوى.
كل هذه الخلطة ستؤدى آليا إلى تحقيق الديمقراطية والتعددية، وشيوع الحريات.
ما سبق ليس لإصابة الحالمين باليأس والإحباط، بل لكى يدركوا وجود سياق لكل شىء، وأن الحلول والأمانى والأحلام لا تنزل من السماء، بل لابد من عمل على الأرض لكى تتحقق، أو على الأقل لكى يبدأوا فى الحلم بها.
وإلى أن يحدث ذلك، فليس أمامهم إلا مشاهدة الأفلام التى تعبر عن هذه الأحلام فى بلدان أخرى!
نقلا عن الشروق القاهريه