بقلم: عماد الدين حسين
صباح يوم الإثنين الماضى، شاهدت مجموعة من العاملين فى بوفيه إحدى المؤسسات، كانوا يتنافسون بشأن أسباب الحادث الذى وقع أمام معهد الأورام بكورنيش النيل.
النقاش دار بشأن كيفية وقوع الحادث، وهل السبب انفجار خزان الوقود ببعض السيارات أم أنابيب بوتاجاز وأكسجين فى الدور الأول من المعهد ام سيارة مفخخة؟
أحد المتناقشين حسم الأمر، وقال لهم لقد رأيت فيديو على يوتيوب يصور جزءا من الحادث، ورد ثانٍ قائلا: وأنا رأيت فيديو يصور المشاهد الأولى، وهناك فيديو يكشف وجود حفرة عميقة فى الطريق، مما يعنى أن سبب الحادث هو عمل إرهابى.
الملاحظة الرئيسية أن هذا الجدال بين عمال وموظفى البوفيه، كان يدور فى الوقت الذى كانت فيه الرواية الرسمية المبدئية ترجح حادث تصادم بين مجموعة من السيارات، ولم تكن قد أقرت معلومة وجود مواد متفجرة.
ما الذى أريد أن أقوله من خلال القصة السابقة؟!
المسألة ببساطة هى أن هناك إعلاما مختلفا ومتنوعا وبه جزء كبير من الحقيقة، يصل إلى الناس بسرعة، وبمجرد وقوع الحدث، حتى لو كانت أجهزة الحكومة المختلفة، لم تصل بعد إلى الحقيقة، أو وصلت إلى أجزاء منها، ولم تعلنها رسميا للناس!
نوعية عمال البوفيه الذين أتحدث عنهم، ليسوا من الحاصلين على مؤهلات عليا، لا يقرأون صحفا، سواء كانت مؤيدة أم معارضة. ليس لديهم ميول سياسية محددة. اهتماماتهم الأساسية كروية فى الأساس، وتنقسم ما بين الأهلى والزمالك محليا، وتشجيع ليفربول ومحمد صلاح دوليا.
أيضا لا يتابعون برامج التليفزيون السياسية أو الاقتصادية، يشاهدون بالأساس البرامج الرياضية، والخناقات والشتائم التى صارت السمة الأساسية لعالم الرياضة فى مصر، خصوصا كرة القدم. هذه النوعية من المصريين غير المهتمة بالسياسة، لكنها من دون أن تدرى وجدت نفسها وسط الأحداث الساخنة، وتتحدث فى أدق التفاصيل، وتتابع قضايا مجتمعها، حتى لو كانوا غير مهتمين بها.
الفضل فى هذا الأمر يرجع أولا وأخيرا لصحافة الفيديو وثورة اليوتيوب، والهواتف المحمولة التى جعلت من أصغر مواطن صحفيا محترفا فى أى لحظة.
أى مواطن يركب ميكروباص أو أتوبيس نقل عام، أو حتى كان يسير على قدميه، يمكنه أن يفتح كاميرا تليفونه المحمول العادى جدا. ويقوم بتصوير أى حدث أمامه، وبعدها يضع الفيديو الذى صوره على صفحته على الفيسبوك أو تويتر أو يوتيوب.
يمكن لهذا المواطن البسيط أن يجد نفسه يملك كنزا كبيرا، لو أن ما صوره تصادف أنه حدث مهم. رأينا قبل أيام شخصا صور المسلح الذى أطلق النيران عشوائيا خلف محطة السكة الحديد فى أحمد حلمى، ورأينا فى مرات كثيرة كاميرات الشوارع الثابتة تلعب دور البطولة فى أحداث جسام.
هذه الكاميرا كانت العامل الرئيسى فى تعريفنا بالإرهابى الذى فجر نفسه قبل شهور فى الغورية بالحسين، وهى التى راقبت تحركاته من ميدان الجيزة، حتى منزله.
وهى التى فضحت العديد من الإرهابيين الذين فجروا كنائس فى الأعوام الأخيرة. كما انها عرت العديد من البطولات الزائفة، لأنها تقدم لنا الصورة كاملة من دون محاولات التجميل والتزييف.
إذا الفيديوهات التى نظن أنها عادية وبسيطة، يمكن أن تتحول فى لحظة إلى عامل حاسم يفك لغز أكبر القضايا أو الجرائم، وهى التى أشركت ملايين المواطنين العاديين قسرا وغصبا فى الأحداث السياسية، وجعلتهم مشاركين، رغم أنوفهم فى القضايا العامة!!
مثل هذه الفيديوهات صارت الآن هى الصحافة والإعلام الحقيقى، فى معظم أنحاء العالم. هل تتذكرون الإرهابى العنصرى الأسترالى الذى ارتكب قبل شهور قليلة جريمة كرايستشيرش فى نيوزلندا؟!. كانت تلك هى الجريمة الأولى فى التاريخ، ربما، التى يرتكبها صاحبها من أجل السوشيال ميديا، حينما ثبت كاميرا فوق رأسه، وبث الجريمة كاملة على الهواء صوتا وصورة!!
فيديو واحد صار يشاهده الملايين، فى دقائق، فى حين أن إجمالى ما توزعه كل الصحف المصرية اليومية لا يتجاوز ٣٠٠ ألف نسخة!
أحد طرق خروج الصحافة المصرية من أزمتها الحالية، أن تركز على هذا النوع الجديد، الذى ينقل جوانب كثيرة من الحقيقة، أو حتى يضع المشاهد فى صورة ما يحدث. وهو فى نفس الوقت ناقوس مهم يدق لدى كل المعنيين، بأن الطريقة القديمة للتعامل مع الأحداث، ينبغى أن تتغير لتتلاءم مع الوقائع الجديدة، وأن الحقيقة هى أفضل وأحسن وأقصر الطرق لبناء رأى عام قوى وفاعل ومساند للدولة فى كل القضايا، خصوصا مواجهة الإرهاب والتطرف.