بقلم - عماد الدين حسين
بعض الناس وبحسن نية شديد يعتقدون أن الحياة مثالية، وأن السياسة ينبغى أن تخضع للقواعد الأخلاقية والمثاليات، وليست للمصالح أو حتى للألاعيب السياسية المتقلبة. ومن سوء الحظ أن هؤلاء يصطدمون كل مرة بالحقيقة المرة، وهى أن القاعدة الأولى فى السياسة هى المصالح، وليست الأخلاق أو المثاليات، وإذا نجحت جهة أو دولة فى الجمع بين الإثنتين أى المصلحة والمبدأ يكون ذلك أمرا جيدا جدا، لكنه نادر الحدوث إلى حد كبير.
قرأت للبعض على وسائل التواصل الاجتماعى، أو حتى فى بعض وسائل الإعلام التقليدية، يستغرب من موقف بعض الدول من قضية اختفاء الكاتب الصحفى السعودى جمال خاشقجى، بعد دخوله قنصلية بلاده فى اسطنبول ــ وتبين فى النهاية انه قتل داخلها ــ أو قيام السلطات التركية بإطلاق سراح القس الأمريكى برانسون رغم أنها أصرت لأكثر من عامين على أنه مدان ومذنب.
الدول غيرالأفراد، هى تتصرف طبقا لمصالحها، حتى لو تصادمت هذه المصالح مع المبادئ والأخلاق أحيانا.
فى أزمة خاشقجى كانت المواقف طبقا للعلاقات والمصالح مع هذا الطرف أو ذاك.
الدول ذات العلاقة الطيبة مع السعودية، أصدرت بيانات تضامن وتأييد لموقفها، فورا، بغض النظر عن حقيقة ما حدث. والدول التى فى حالة صراع أو خلاف مع السعودية مثل قطر، بادرت أجهزة إعلامها منذ اللحظة الأولى إلى الشماتة فى المملكة والترويج لكل الأخبار المسيئة لها.
الموقف المصرى كان معقولا إلى حد كبير مقارنة بالاستقطاب الحاد الموجود فى المنطقة. فهو أعرب عن قلقه فيما يتعلق باختفاء خاشقجى وهو أمر أخلاقى محترم، وفى نفس الوقت رفض أى محاولة لاستخدام الحادث للإساءة إلى السعودية، ثم اشاد اخيرا بالمعالجة السعودية للامر، والاقرار بانه مات داخل القنصلية، وكان ملفتا فى البيان ايضا تعزية اسرة خاشقجى فى وفاته.
طبعا كانت هناك مواقف موضوعية من بعض الدول الأوروبية، وانحازت إلى الجانب الإنسانى فى القضية، مطالبة بالكشف عن مصير الصحفى. هذه البلدان ليست لها مصالح مع هذا الطرف أو ذاك، وبعيدة عن الصراع. وبالتالى فإن الموقف المبدئى لها محترم، لكنه لن يكلفها شيئا على الإطلاق، وهذه الفئة لا يمكن القياس عليها للأسف!
نحلم بوجود عالم يتصرف على أساس المبادئ والأخلاق والمثل العليا، لكن هل نلوم من يتصرفون على أساس المصلحة فقط؟!
ظنى الشخصى أن الإجابة يصعب ان تكون جازمة. خصوصا حينما لم نكن نعرف بصورة قاطعة ما الذى حدث لجمال خاشقجى، حتى لو كانت لدى بعضنا ظنون وهواجس ومخاوف، وبالتالى يصعب إصدار أحكام نهائية. ثانيا، لا يمكن أن نلوم دولة اتخذت موقفا داعما لهذا الطرف أو ذاك، طالما هى لديها مصالح حقيقية. وربما كان موقف الرئيس الأمريكى دونالد ترامب أفضل مثال على كلامنا. هو رئيس أقوى دولة فى العالم، ورغم ذلك، فقد كان واضحا حينما قال إنه لن يوقف مبيعات السلاح للسعودية حال ثبوت تورطها فى قضية خاشقجى. لأنه لن يضحى بأكثر من ١١٠ مليارات دولار تصب فى اقتصاد بلاده.
إذا كان ترامب فعل ذلك، فهل نلوم دولة صغيرة جدا جدا، واقتصادها مأزوم إذا قررت أن تتخذ موقفا لا يتصادم مع مصالحها، أو دولة صغيرة أخرى اتخذت موقفا عكسيا لكنه يصب أيضا فيما تعتقد أنه مصالحها؟!
هيئات ومؤسسات وبنوك وشركات وشخصيات كبرى قالت انها ستتخذ موقفا اخلاقيا مما حدث لخاشقجى، وهذا امر جيد على المستوى الاخلاقى، لكنهم قالوا ايضا انهم سيرسلون وفودا على مستوى اقل حتى لا يخسروا الصفقات!!
إذا لا خلاف على ان نحلم بألا تتصادم المصالح مع المبادئ، لكن لو حدث التصادم فعلى الأقل يكون الانحياز للمصالح بطريقة رشيدة وعاقلة وليست سافرة وفجة وممجوجة.
طنى أن وسائل الاعلام التقليدية وكذلك التواصل الاجتماعى لعبت دورا مهما فى تسليط الضوء على مساحات مهمة فى العمل السياسى كانت موجودة طوال الوقت، لكن لم نكن نراها عن قرب، وربما يحتاج ذلك إلى نقاش لاحق.
نقلا عن الشروق القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع