بقلم: عماد الدين حسين
هل هى صدفة أن يتزامن تصاعد التهديد التركى للأمن القومى المصرى غربا انطلاقا من ليبيا، مع تصاعد التهديد الإثيوبى للأمن القومى المصرى جنوبا، بالإصرار على الإضرار بالحقوق المصرية فى مياه النيل؟!
لا يوجد فى السياسة عموما مصطلح «الصدفة» إلا ما ندر، وبالنظر إلى التحديات والمخاطر التى تهدد الأمن القومى المصرى، فهناك العديد من المتابعين والمراقبين الذين يرون أنها منسقة إلى حد كبير، ويصعب افتراض الصدفة أو حسن النية فيها.
لست من الذين يرددون كلمة «المؤامرة» عمال على بطال، وإلصاقها بكل حدث، حتى يسهل لنا الهروب من أى مسئولية بتعليقها على شماعة المؤامرة.
ولا تعنى المقدمة التى بدأت بها أن الرئيس التركى رجب طيب أردوغان ورئيس الوزراء الإثيوبى آبى أحمد اجتمعا أو اتصلا معا قبل أيام وقررا أن يصعدا ضد مصر، لكن السياسة الدولية تعرف قاعدة «عدو عدوى صديقى»، وأفضل من يطبق هذه القاعدة إسرائيل.
من الطبيعى أن تسعى كل الدول الكبرى عالميا وإقليميا إلى البحث عن مصالحها أو تعظيمها، أو حتى الحصول على أى مكاسب. هذه الدول وهى تفعل ذلك، فلا تحسب الأمور بالمبادئ والحقوق، بل ربما تحصل على هذه المصالح بالبلطجة واستغلال الظروف والتطورات الدولية.
القوى الكبرى التى تريد السيطرة أو الوجود فى المنطقة لن تكون سعيدة بوجود دولة قوية فى مصر، وتاريخيا تسعى كل القوى الدولية والإقليمية إلى إضعاف مصر أو إغراقها فى مشاكل متنوعة، والأمثلة الأقرب لذلك ما فعلته هذه القوى مع تجربة محمد على فى معاهدة لندن عام ١٨٤٠، وما فعلته مع تجربة جمال عبدالناصر فى يونيو ١٩٦٧.
مرة أخرى وحتى لا أكون مرددا ببغاويا لنظرية المؤامرة، فإن الدول الكبرى تسعى لتحقيق مصالحها وما كان يمكن لها أن تحطم تجربة محمد على، لولا أنه توسع بأكثر ما ينبغى، وهدد مصالح هذه الدول الكبرى، ولم يكن مستعدا لمواجهتها جميعا فى وقت واحد.
نفس الوضع فى يونيو ١٩٦٧، وقبل أن نلوم مساعدة أمريكا ودول غربية كثيرة لإسرائيل عسكريا، فعلينا أن نلوم القيادة المصرية وقتها التى لم تكن مستعدة للحرب.
الآن فإن المصالح التركية الإثيوبية الإسرائيلية متلاقية ومتناغمة، حتى لو لم يكن هناك تنسيق بينهم، وحتى لو ادعى أردوغان، أنه يعادى إسرائيل لفظا، لكنه لم يمس المصالح الإسرائيلية بشعرة واحدة.
من مصلحة إسرائيل الاستراتيجية أن يستمر الإرهاب فى مصر، وألا تتفق مصر مع إثيوبيا أو مع تركيا، ومن مصلحة أردوغان أن تتعنت إثيوبيا معنا فى مياه النيل، ويتمنى أن تسوء علاقة مصر مع الجميع خصوصا الولايات المتحدة وأوروبا. ومن مصلحة إثيوبيا بطبيعة الحال أن تتورط وتغرق مصر فى ليبيا، وتتصارع مع تركيا ومرتزقتها حتى تنشغل بمعركة كبرى وتتركها تنفذ مخططها فى مياه النيل.
نعود إلى السؤال الذى طرحنا فى بداية هذا المقال؟ ونكرر أن الصدف ليست موجودة، والسبب الجوهرى أن البلطجة التركية فى المنطقة خصوصا ليبيا ليست وليدة اليوم، والتصعيد الإثيوبى بشأن مياه النيل ليس جديدا بل منذ عقود طويلة، لكن الجديد فقط أن كل من أنقرة وأديس أبابا تشعران أو تعتقدان أن مصر فى حالة ضعف فى السنوات الأخيرة، خصوصا بعد يناير ٢٠١١، وبالتالى فتلك لحظة حاسمة لتحقيق مطامع استراتيجية لم يكن ممكنا تحقيقها فى الأوقات السابقة.
وإذا كانت الصدف شبه منعدمة فى السياسة، فإن الأصل أيضا أن نكون مستعدين لكل السيناريوهات ولكل التحركات والخطط والمؤامرات الخارجية، وأول أسس هذا الاستعداد أن يكون لدينا فهم واضح وصحيح للصورة الإقليمية والدولية، وأن نعرف نقاط قوتنا ونعززها، ونقاط ضعفنا ونعالجها، وأن يكون لدينا مجتمع قوى متوافق.
نحن نعيش لحظة صعبة والتحديات والتهديدات كثيرة ومتزامنة، وكان الله فى عون صناع القرار فى هذه الأوقات العصيبة.