«فى السياسة لا تنشغلوا كثيرا بالشعارات الرنانة والكلمات الجوفاء.. ركزوا فقط على الأعمال».
يوم الخميس الماضى نقلت وكالة الأنباء الفرنسية عن مسئول بوزارة الخارجية التركية، القول: «بصفتنا حليفا استراتيجيا للولايات المتحدة، فإننا نحترم العقوبات الأمريكية على إيران، وأوقفنا استيراد النفط منها اعتبارا من الثانى من مايو!».
فى نفس اليوم أيضا، أعلنت الهند، أنها أوقفت تماما استيراد النفط الإيرانى، وقال سفيرها فى واشنطن هارش فردان شرينغلا: «لقد انتهى الأمر، لن نستورد النفط من إيران بعد الآن». كما توقفت الهند عن استيراد النفط من فنزويلا بسبب الحصار الأمريكى المفروض عليها.
فى نفس التوقيت تحدثت تقارير إعلامية عن أن الصين لم تسجل أى طلبات استيراد نفط من إيران، متراجعة عن تصريحاتها السابقة بأنها لن تنصاع للعقوبات الأمريكية على إيران.
نعلم أن أمريكا فرضت عقوبات على إيران، وتريد أن تمنعها من تصدير النفط تماما، وقبل ست شهور منحت كل من الصين واليونان والهند وإيطاليا واليابان وكوريا الجنوبية وتايوان وتركيا مهلة تنتهى فى ٢ مايو، للالتزام بعدم استيراد أى نفط من إيران.
قد يسأل سائل: وما الحكمة من الأخبار السابقة؟!.. الإجابة أن بعض قادة ومسئولى البلدان الثمانية قالوا إنهم يرفضون تطبيق القرارات الأمريكية.
الأعلى صوتا فى الرفض كان الرئيس التركى رجب طيب أردوغان، وكبار مساعديه، الذين قالوا إن هذه القرارات، تتصادم مع الشرعية الدولية.
فى تقديرى، فإن القرارات الأمريكية ضد إيران لا تستند فعلا لأى شرعية دولية، لكن ليس هذا هو بيت القصيد هنا، فالغرض من هذه السطور، هو مناقشة لماذا صعدت بعض هذه الدول إلى أعلى الشجرة، بعد أن ألقت بالسلم بعيدا، وفى النهاية اضطرت صاغرة إلى الانصياع للتهديدات الأمريكية؟!
كان البعض يعتقد أن موقف أردوغان مبدئى، وأنه سيصمد للنهاية، خصوصا أن هناك منطقا فى الموقف التركى يتمثل فى حصولهم على النفط والغاز من إيران بأسعار رخيصة جدا مقارنة بأسعار السوق، لأن إيران المحاصرة، تريد إغراء أى دولة بشراء نفطها، ثم إن الجيرة تعنى أن تكلفة نقل النفط قليلة جدا.
بكين أيضا اعترضت على القرارات الأمريكية، لكنها لم تطلق تصريحات عنترية، وهى تدرك جيدا قواعد اللعبة، ولا تريد أن تصطدم مع واشنطن فى هذا الملف الآن، خصوصا فى ظل الحرب التجارية والتكنولوجية الشاملة والمحتدمة بينهما هذه الأيام.
ما الذى يدفع أردوغان إلى التصعيد ضد أمريكا، إذا لم يكن واثقا من قدرة نظامه على الصمود؟!
قد يكون الأمر راجعا لتركيبته الشخصية، خصوصا أنه كرر نفس الموقف خلال احتجاز المبشر الانجيلى الأمريكى اندرو برانسون فى 7 أكتوبر 2016، بتهمة دعمه لفتح الله جولن. ظل أردوغان رافضا للمناشدات والمطالبات الأمريكية، بإطلاق شرح برانسون، قائلا إنه لا يتدخل فى عمل القضاء، لكن حينما كشر ترامب عن أنيابه، وشن حربا تجارية على تركيا ــ جعلت عملتها الليرة تترنح وتفقد أكثر من ٤٠٪ ــ فوجئنا بأن «القضاء المستقل» أطلق سراح برانسون، وسافر لبلاده فى 12 أكتوبر الماضى!!
فى السياسة لا توجد مستحيلات، والأمور يفترض أن تتم وفقا للمصالح، حتى لو تصادمت كثيرا مع المبادئ والمثاليات!
لكن السياسة الحكيمة هى التى تمنع الدول من إطلاق التصريحات العنترية، حتى لا تضطر لتغيير لهجتها، وقبول بكل ما كانت ترفضه.
أمريكا ما تزال أكبر قوة فى العالم اقتصاديا وعسكريا وتكنولوجيا، وسياسيا. هى تتصرف بمنطق الفتوة، كما يفعل ترامب الآن مع كثيرين بمن فيهم حلفاء لبلاده.
ليس هناك شرعية دولية أو أخلاقية تعطيه الحق فيما يفعله، لكن مرة أخرى نحن هنا نتحدث عن السياسة وليس المبادئ.
ترامب هدد الجميع بالعقوبات، إذا لم يقاطعوا إيران. هناك دول تعرف موازين القوى، وحاجتها للولايات المتحدة، وبالتالى استجابت وقاطعت إيران، وهناك دول مثل تركيا رفضت وأصرت على التحدى، ثم تراجعت ورضخت، أمام القوة السافرة أو القاهرة!
ترامب شديد الوضوح، ولا يعرف الكلمات المنمقة، يهدد حلفاءه قبل أعدائه! لكن المشكلة فى نوعية قادة آخرين مثل أردوغان، الذى تقمص دور الفتوة، لكنه لم يكمل الطريق!
والسؤال: هل يظل مصرا على موقفه أمام التهديدات الأمريكية، ويستورد صواريخ إس ٤٠٠ الروسية، أم يتراجع كما حدث مع النفط الإيرانى؟!