تخيلوا لو أن عملية قتل الكاتب الصحفى السعودى جمال خاشقجى، قد حدثت قبل انفجار ثورة المعلومات والاتصالات والإعلام، فهل كان وقْعها سيكون مشابهًا لما حدث ويحدث الآن؟!
الإجابة هى: قطعًا لا.
قبل أيام تحدثت عن الجانب التقنى خصوصا الكاميرات، التى تكفلت بإفشاء معظم أسرار العملية. واليوم أتناول جانبا آخر وهو وسائل الاتصال التقليدية وغير التقلدية خصوصا «السوشيال ميديا».
فى الماضى كان يمكن لأى دولة كبيرة وقوية ومؤثرة أو حتى دولة عادية أن تمنع هذه الصحيفة أو تشوس على تلك الإذاعة، وبالتالى تحجب وصول الحقيقة إلى غالبية الناس عبر الرقيب التقليدى.
الصحف المعادية كانت ممنوعة أساسا من الدخول، ومن يسمح له، لا يمكن أن يخرج عن الخطوط العامة. الآن تفعل بعض الحكومات ذلك، لكنها لا تستطيع حجب وجهة النظر الأخرى بالكامل.
درس قضية خاشقجى الأخيرة يقول لنا إنه يصعب تماما ــ إن لم يكن يستحيل ــ منع وصول معلومة ما إلى الناس.
يكفى فقط أن يقوم مواطن عادى بكتابة أى شىء يريده على الفيسبوك أو تويتر، وبعدها ستجده منشورا فى كل بقاع الأرض.
حينما دخل خاشقجى السفارة ولم يخرج، قامت خطيبته التركية بإبلاغ السلطات المختصة ووسائل الإعلام، وبعدها بدقائق كان العالم أجمع يعرف أن خاشقجى قد اختفى.
الإعلام السعودى الرسمى وشبه الرسمى، ظل ينقل وجهة النظر الرسمية التى تقول إنه خرج، لكن غالبية الإعلام التركى والدولى ظل ينقل التسريبات والتفاصل الدقيقة لدرجة لم يكن ممكنا معها إغلاق القضية.
فى الماضى كان يمكن لقضية مشابهة أن تموت إذا تسترت عليها حكومة أو حكومات. ذلك لم يعد ممكنا بالمرة الآن. السبب ببساطة أن وسائل الإعلام لم تعد ملكا لشخص واحد أو حكومة واحدة أو حتى عدة حكومات. فى اللحظة التى تواجدت فيها وسائل التواصل الاجتماعى ضعفت إلى حد كبير فكرة سيطرة الحكومات على وسائل الإعلام، بل هناك من يتجرأ أكثر ويقول أن انفجار ثورة الاتصالات غيَّرت الكثر من المفاهيم والنظريات الخاصة بالقمع والاستبداد وتحكم الأنظمة فى الشعوب، بحيث إنه لم يعد ممكنا على الإطلاق أن تتكرر الممارسات الاستبدادية التى كانت تتم فى الماضى بنفس الفجاجة!!. ليس معنى ما سبق أن الاستبداد فى العالم سوف يتوقف. هو سوف يستمر، طالما هناك بشر وحياة إنسانية لكن الذى سوف يختلف هو الدرجة والطريقة والأسلوب.
تنوع وسائل الإعلام التقليدية والتواصل الاجتماعى، يتيح لغالبية سكان الأرض متابعة أى قضية فى أى مكان وزمان، فى نفس اللحظة التى تحدث فيها. هل يعلم أى إنسان منكم أى قضية تمكَّن أصحابها من إخفائها حتى لو كانوا الأقوى والأغنى فى العالم بأكمله؟!.
ترامب بكل جبروته وثروته ومنصبه كرئيس أقوى دولة فى العالم، لا يمكنه منع غالبية وسائل الاعلام الأمريكيية والعالمية من نشر أخبار وقصص وحكايات تتضمن حياته الخاصة، ومنها مثلا ما روته فتاة الليل ستورمى دانيالز عن تفاصيل العلاقة الجنسية بينهما.. بوتين الذى يملك ثروات النفط والغاز والصواريخ النووية العابرة للقارات لا يمكنه منع بعض صحافة بلاده وغالبية الصحافة الغربية من النبش فى ماضيه أو تضييقه على المعارضة ورموزها.. حكام الصين بكل ثرواتهم ومعجزتهم الاقتصادية غير المسبوقة، عرضة يومية للانتقاد فى الصحافة الغربية.
غالبية حكام المنطقة العربية، خصوصا فى الخليج، صاروا المادة الخام لمعظم افتتاحيات الصحف الغربية الكبرى بسبب سجلهم غير الناجح فى حقوق الإنسان والحريات والتعددية.
يمكنك أن تكون الأقوى والأغنى والأكثر نفوذا، لكنك لن تكون قادرا على منع مدون معدم لا يملك شيئا من كتابة قصة صحفية تكشف أخطر ما تريده أن تخفيه.
وسائل التواصل الاجتماعى صارت قادرة على هتك كل الأسرار، وكسر كل الحواجز، واقتحام كل الحصون.. ولذلك على كل الحكومات أن تتعامل بجدية مع هذا المتغير.
نقلا عن الشروق
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع