بقلم - عماد الدين حسين
فى حادثة اختفاء الكاتب الصحفى السعودى جمال خاشقجى بعد دخوله قنصلية بلاده فى اسطنبول التركية يوم الثلاثاء قبل الماضى، فقد رسبت غالبية وسائل الإعلام العربية والتركية وحتى العالمية فى امتحان واختبار التغطية الصحفية للحادث، طبقا للقواعد المهنية المتعارف عليها.
هناك أكثر من مسار وطريق للحديث عن هذا الموضوع. منها مثلا المسار القانونى ثم السياسى وكذلك المسار الصحفى الإعلامى.
فى هذا المقال لا اتناول المسارين القانونى الجنائى أو السياسى، بل الاعلامى فقط.
يمكن لأى شخص أن يدافع عن السعودية او تركيا أو ينتقدهما حسب المكان الذى يقف فيه، طالما الأمر كان سياسيا، لكن حينما تتحدث عن الصحافة والمهنة، فلابد من الاحتكام للقواعد المهنية الصارمة. والذى حدث فى التغطية الأخيرة، هو أن المسارات اختلطت وتشابكت معا، ومن كل الأطراف، بحيث لم ينجح أحد إلا من رحم ربى.
لو أننا نتكلم مهنيا، عن المعالجة الخبرية، فإنه وحتى هذه اللحظة، «مساء الاثنين 15 اكتوبر 2018» فإن توصيف ما حدث هو أن «جمال خاشقجى اختفى بعد دخوله القنصلية السعودية فى اسطنبول» مرة أخرى أنا أتحدث الان عما هو معلن رسميا، وحتى الآن فإن السلطات التركية لم توجه أى اتهامات رسمية للسعودية بإخفاء أو خطف أو قتل خاشقجى، رغم ان التسريبات التركية والامريكية بدأت تتزايد فى الساعات الاخيرة فى اتجاه فرضية القتل.
المفروض أن أى معالجة مهنية للقصة ينبغى ألا تجزم بشىء، طالما أنها لا تملك دليلا على ذلك. لكن الذى حدث هو انحياز مطلق فى كلا الاتجاهين. والسؤال لماذا حدث ذلك؟! الإجابة ببساطة هى الاستقطاب الإقليمى والدولى الحاصل بين أطراف كثيرة بشأن الحادث.
الإعلام المعادى للسعودية وهو طيف واسع يشمل وسائل إعلام فى قطر وتركيا وعواصم غربية مختلفة، لا هم له إلا توريط السعودية، وهو أمر طبيعى ومفهوم فقد هبط الحادث عليهم كهدية من السماء لم يحلموا بها مطلقا. وفى مثل هذا المناخ، لا يسأل الناس كثيرا عن المعايير المهنية. هم يريدون فقط أى أخبار أو تقارير أو تحليلات تسىء للطرف الآخر المختلف معه.
فى المقابل فإن وسائل الإعلام التى تدافع عن وجهة النظر السعودية، وقعت فى نفس الخطأ، وقدمت أيضا صورة أحادية فقط، وهى أن خاشقجى دخل القنصلية ثم خرج منها، من دون أى دليل يثبت ذلك، كما تفرغت هذه الوسائل لتفنيد القصص التى يقدمها الجانب التركى والقطرى.
فى مثل هذ القضايا لا يمكن لأجهزة الإعلام اللجوء إلى التحقيقات المعمقة والشاملة لأنها تحتاج وقتا طويلا وجهد محترفين وأموالا طائلة. وبدلا من التأنى والتدقيق والتمحيص، فقد انجرفت غالبية وسائل الإعلام «فى الجانب الاول» إلى الجزم بأن خاشقجى قتل وتم تقطيع جسده بالمنشار، ودفن فى القنصلية أو منزل القنصل، أو جزمت «فى الجانب الثانى» بأنه خرج من القنصلية، من دون أن يمسه سوء.
الصحف المعادية للسعودية، توسعت فى استخدام المصادر المجهلة. ليس عيبا أن تستند لمصادر لا تذكر أسماءها فهو امر شائع فى غالبية وسائل الاعلام الدولية، لكن فى إطار من التوازن وبما يخدم كل أطراف القصة. فلا يعقل أن يستخدم الإعلام القطرى والتركى وبعض الغربى هذه المصادر المجهلة للإساءة إلى السعودية فقط، أو فى الناحية الأخرى للإيحاء بأن هناك مؤامرة شاملة ضد السعودية.
من الواضح أن الأمن التركى هو المصدر الرئيسى للتسريبات فى هذه القصة عبر وكالة الاناضول وصحف وفضائيات مختلفة، لأنه الوحيد الذى يملك المعلومات والاستنتاجات. وكان مفهوما بالطبع أن تتمترس الحكومة السعودية حول نفى تورطها من جهة، وتشويه وتفنيد الروايات الأخرى من جهة ثانية، لكن فى المقابل لم تقدم ما يثبت ان الطرف الاخر كان كاذبا فى كل معلوماته وتسريباته.
التغطية الإعلامية لحادث اختفاء خاشقجى قد تدخل مناهج التدريس فى معاهد وكليات الإعلام، كدليل على التغطية المنحازة من كل الأطراف. وكيف أن الصحافة والمهنية تدفع الثمن فادحا حينما تهمل القواعد المهنية، وتنقاد وراء الأهواء والانحيازات والولاءات والمصالح السياسية، وأداء اللحن الذى يريده صاحبه من الزمار!!
نقلا عن الشروق
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع