بقلم: عماد الدين حسين
رحم الله الرئيس الأسبق محمد حسنى مبارك، الذى توفى صباح أمس الثلاثاء عن عمر ٩٢ سنة.
فى هذه اللحظات لا يجوز للعقلاء والأسوياء والبنى آدميين، إلا أن يترحموا على الرئيس الراحل مثلما ترحموا على كل الرؤساء الذين حكموا مصر، ورحلوا لرحمة الله، سواء اتفقنا أو اختلفنا معهم من أول محمد نجيب ثم جمال عبدالناصر ومحمد أنور السادات ومحمد مرسى، وأخيرا مبارك.
طبيعى أن من حق كل إنسان أن يتفق أو يختلف مع حسنى مبارك ومع غيره، لكن فى مثل هذه اللحظات، ينبغى أن تكون هناك مراعاة لحرمة الموت والموتى، وأن يكون ذلك بأدب واحترام وموضوعية.
نحتاج فى مصر كثيرا إلى لغة عاقلة وموضوعية وهادئة ورزينة، ونحن نتحدث فى العديد من الموضوعات، ومنها كيفية التعامل مع الشخصيات العامة.
معظمنا للأسف لا يريد أن ينظر إلا بمعيار الأبيض والأسود، فى حين أن الأمور فى الدنيا كلها نسبية وليست مطلقة.
مبارك حكم مصر لثلاثين عاما من ١٩٨١ إلى ٢٠١١. ويستحيل القول إن سنوات حكمه كانت «جنة الله فى الأرض كما يرى أنصاره، أو أنها كانت شرا مطلقا كما يرى خصومه».
كلٌ منا ينظر إلى تقييم عهد مبارك من الزاوية التى ينظر منها، أو الأفكار التى يؤمن بها، وبالتالى تظل هذه التقييمات نسبية، وقابله للجدل، وتخص أصحابها.
وحتى تقييم التاريخ صار متأرجحا، فى عصر السوشيال ميديا، حيث صار لدينا أكثر من تاريخ، وأكثر من رواية، وأكثر من وجهة نظر، وبالتالى فإن كل مؤرخ سيكتب عن عهد مبارك بعد سنوات، سوف يكتب أيضا انطلاقا من رؤيته الشخصية. ويندر أن تجد مؤرخا ينطلق من رؤى علمية موضوعية صارمة، لا تتأثر بأفكاره وآرائه وانحيازاته.
سيسأل البعض: وما هى وجهة نظرك فى عهد حسنى مبارك بعيدا عن هذا التنظير؟!.
إجابتى.. أننى ومنذ دراستى فى الثانوية العامة بأسيوط، فقد كنت فى بيئة معارضة، وبعدها انضممت فى جامعة القاهرة لـ «نادى الفكر الناصرى»، ثم معظم الأحزاب الناصرية التى تأسست خلال مرحلة حكم مبارك، وكانت تعارضه بصورة واضحة، خصوصا على خلفية علاقاته مع إسرائيل، وعملت فى كل الصحف التى انتقدت مبارك بصورة جذرية من جريدة صوت العرب ومجلة «الموقف العربى»، إلى «العربى» الناصرى، مرورا بمطبوعات عربية كثيرة، كنت أكتب لها من القاهرة، وبسبب هذا الطريق تشردت وزملاء كثيرين، سلطات مبارك أغلقت العديد من هذه الصحف مثل «صوت العرب» و«مصر الفتاة».
مقالاتى فى «الشروق» منذ تأسيسها فى فبراير ٢٠٠٩ وحتى تنحى مبارك فى ١١ فبراير ٢٠١١ كانت فى معظمها معارضة، ورغم ذلك، ولأننى أدرب نفسى على الموضوعية قدر الإمكان، فقد صرت أنظر للأمور بصورة هادئة وعقلانية.
الرجل حكم مصر ثلاثين عاما، لم تكن كلها خرابا، والمؤكد كان بها إنجازات كثيرة فى الاقتصاد والمدن الجديدة، والمجتمع وحتى فى الرياضة.
والإيجابية الأكبر فى حياته هى دوره كقائد للقوات الجوية فى حرب أكتوبر. واختلف مع أى شخص يقوم بتخوينه.
لكن ظنى الشخصى أن السلبيات فاقت الإيجابيات، وتقديرى أن تجريف الحياة السياسية ومحاصرة القوى والأحزاب السياسية المدنية فى مقارها كان الخطأ الأكبر؛ لأنه هو الذى سمح للقوى والتيارات الدينية المعتدلة والمتطرفة والظلامية أن تتعملق، رغم أنها كانت محظورة نظريا.. كان يمكن لمبارك أن ينقل مصر إلى منطقة مختلفة تماما، إذا سمح بتداول السلطة أو تقوية الأحزاب والمجتمع المدنى، بدلا من «استقرار القبور» الذى تبين لنا أنه كان هشًا فى 28 يناير ٢٠١١.
الخطأ الأكبر الثانى، هو عدم البدء فى إصلاح اقتصادى حقيقى منذ بداية حكمه، وبدلا من ذلك نمت القطط السمان التى التهمت غالبية موارد الاقتصاد، واحتكرت غالبية الموارد ثم احتكرت السياسة.
ثالثا: إهماله للقارة الإفريقية، وعدم الالتفاف مبكرا إلى خطورة ابتعاد دول حوض النيل عن مصر وهو ما قاد لاحقا إلى الأزمة التى تعانى منها الآن.
رابعا: تراجع وتقزم دور مصر عربيا وإقليميا، وبدلا من بناء نموذج للتنمية المستقلة الشاملة صرنا نعتمد على المعونات العربية والأجنبية التى كبلّتنا، وجعلت إسرائيل تحكم المنطقة عمليا، بل إن قوى صغيرة جدا فى المنطقة صارت أكثر تأثيرا من مصر!!.
خامسا: عمليات القتل واسعة النطاق التى استهدفت شباب ثورة ٢٥ يناير. قد لا يكون هو من أصدر الأمر بقتلهم، لكنه يتحمل المسئولية السياسية فى النهاية.
مرة أخرى، هذا رأى سياسى وليس حكما قيميا. ولا أملك اليوم إلا أن أترحم عليه، وأقدم خالص العزاء لأسرته ومحبيه.