ماذا سيحدث لو أجريت انتخابات نيابية أو رئاسية اليوم أو غدا أو حتى بعد أشهر فى السودان؟!.
أغلب الظن، وطبقا لكل المؤشرات والتجارب السابقة والمماثلة فى بلدان عربية مختلفة، فإن هذه الانتخابات ستعيد إنتاج النظام السابق إلى حد كبير.
قد يسأل البعض مندهشا: ولكن غالبية الشعب السودانى ثارت على نظام عمر البشير، وتمكنت من إسقاطه يوم 11 أبريل الماضى. فكيف تكون نتيجة الانتخابات إعادة النظام السابق؟!.
الإجابة ببساطة، أن الانتخابات خصوصا النيابية أو المحلية، تحتاج إلى كوادر سياسية مدربة ومؤهلة، ولديها إمكانيات شخصية، وماكينة انتخابية منظمة، ولديها موارد مختلفة مالية وإدارية ولوجستية، وهى احتياجات لا تتوافر لمعظم القوى التى أنجزت الثورة.
نتذكر حينما قامت ثورة 25 يناير 2011 فى مصر، وتنحى حسنى مبارك عن الحكم، فقد تأسست مئات الأحزاب الجديدة فى البلاد، وكانت تتمتع بأقصى درجات الحريات خصوصا فى التعبير والإعلام والمقار والمؤتمرات بل والتمويل، لكن وفى الانتخابات النيابية التى جرت نهاية عام 2011، فقد فاز تيار الإسلام السياسى بأكثر من ثلثى مقاعد البرلمان، لأنه كان يملك وقتها كوادر سياسية وماكينة انتخابية محترفة، وتمويلا ذاتيا حينا، وممولا من جهات مختلفة أحيانا، إضافة بالطبع إلى القوى السياسية التقليدية والقبلية والعائلية التى تسيطر على مقاعد مجلس النواب منذ عشرات السنين.
هذا التيار كان فى المعارضة طوال عهد حسنى مبارك، أى لمدة 30 عاما، فما بالكم بالتيار الإسلامى فى السودان، الذى كان موجودا فى الحكم بالسودان طوال 30 عاما منذ 30 يونية 1989، أى حينما قام البشير بانقلابه، معتمدا على جماعة الإخوان وحسن الترابى وبقية فصائل الإسلام السياسى؟!.
المنطقى أن هذا التيار قد تغلغل فى معظم تلافيف الدولة العميقة بالسودان، بل هناك تقديرات أنه أقام دولة موازية أخرى تحسبا لأى حالة طارئة، كما حدث الآن.
غالبية المشاركين فى الحراك الشعبى الذى أسقط البشير نشطاء شباب ومهنيون، وانضمت إليهم بعض الأحزاب التقليدية. والسؤال هل يتمكن هؤلاء من تكوين أحزاب وتنظيمات تتمكن من الفوز بأغلبية مقاعد البرلمان لكى تطبق برامجها وأفكارها وشعاراتها على أرض الواقع؟!.
الامر ليس مستحيلا، لكنه للأسف صعب إلى حد كبير. لأن الإمكانيات والمهارات والكفاءات المادية واللوجستية والفنية والادارية، لا تتوافر للشباب بنسبة كبيرة، بل للأحزاب والقوى القديمة والتقليدية، ولرجال الأعمال المرتبطين بهذه القوى، والأخطر مرتبطة أيضا بتمويلات من دول غنية لا تحب هؤلاء الناشطين ولا أفكارهم عن الدولة المدنية الحديثة!!.
إذًا هل من مخرج لهذه المعضلة؟
الحل يكمن فيما طرحه أمس الصديق والكاتب الصحفى المرموق عثمان ميرغنى مدير التحرير السابق لصحيفة الشرق الأوسط، بأن تبادر القوى السياسية الجديدة التى قادت الثورة إلى تشكيل تنظيم قوى ومنفتح ومرن ويعبر عن السياسات الجديدة، وأن يبذل جهدا كبيرا للوصول إلى الناس. أتمنى بالطبع أن ينجح ذلك بالفعل على الأقل لمواجهة الدولة العميقة والمتمثلة هذه المرة فى قوى الإسلام السياسى التى نشرت كوادرها فى كل مكان من الجيش والشرطة إلى الوزارات والهيئات المختلفة.
لكن هذه الخطوة ليست سهلة، ولن تتحقق بمجرد التمنى بل تحتاج إلى جهد أسطورى خرافى. أغلب الظن أن قوى كثيرة سوف تواجهها وتخربها وتبت فيها روح الاحباط واليأس. القوى الجديدة لن تجد من يمولها لكى تصل إلى الناس وتعقد المؤتمرات والندوات. وقد لا تنجو أيضا من الانشقاقات الداخلية الطبيعية، التى تحدث داخل كل تيار أو تنظيم أو حزب، فما بالك بأن قوى الثورة ليست جسدا واحدا بل خليطا ضخما من الشباب والمهنيين وذوى الانتماءات السياسية المختلفة؟!
إذًا وفى أى انتخابات برلمانية سريعة، فأغلب الظن أنها ستعيد تقريبا النظام القديم، ولكن بصور ووجوه مختلفة، وبالتالى فالمنطق يحتم على أولئك الساعين إلى بناء دولة مدنية ديمقراطية حديثة أن يقرأوا المشهد جيدا، وألا يلجأوا إلى العنف والانتقام، بل يبحثوا عن أفضل صيغة تجمع أكبر قدر ممكن من القوى الجديدة، لبناء نظام سياسى جديد. عليهم ألا يتشاجروا ويتصارعوا على الكعكة من الآن. عليهم أن يركزوا على بناء أسس النظام الجديد وبعدها يتصارعون ويتعاركون كما يشاءون، فالمعارك والشجارات قادمة، وآتية لا محالة، طال الزمن أو قصر، فتلك من طبيعة السياسة، خصوصا عقب الثورات!!.