قبل أسابيع قليلة وصلنى إعلان لمطعم جديد متخصص فقط فى «الأكل البيتى» بمنطقة الدقى والمهندسين، قرب مقر الشروق.
كثير منا يتلقى مثل هذا الإعلان يوميا، وهو فى المواصلات أو بعد خروجه من مساجد صلاة الجمعة، أو فى أى زمان ومكان. كل ما سبق ليس جديدا، فكثير من المصريين بدأ يحترف فكرة اعداد الوجبات المنزلية. هذا الأمر صار مألوفا منذ فترة، ويتوسع بصورة ملحوظة هذه الأيام، باعتبار أن غالبية المصريين يفضلون الأكل البيتى.
الجديد أننى عرفت أن القائمين على أمر المطعم الجديد زميلان صحفيان، قررا أن يتوقفا عن ممارسة المهنة، وأن يركزا على إعداد وجبات متنوعة فى المنزل، وتوصيلها لمن يرغب من الزبائن.
كل من سمع بحكاية «المطعم الصحفى» بدأ يناقش ويحلل الموضوع، والغالبية أرجعت خطوة الزميلين إلى الأوضاع الصعبة التى تعيشها مهنة الصحافة فى مصر والمنطقة هذه الأيام، سواء فى اقتصادياتها وصناعتها أو محتواها وهامش حريتها.
عندما وصلنى الإعلان عن المطعم الجديد، جربت واتصلت بالتليفونات الموجودة أسفل الإعلان. وكانت المفاجأة أن من قام بالرد على هو زميل صحفى عزيز، أعرفه جيدا، وأشهد أنه باحث مرموق وله كتابات متميزة فى مجاله، وكان حتى أيام قليلة مشرفا على بوابة إلكترونية متخصصة فى قضايا الفكر الدينى.
ولن أذكر اسمه لأننى أولا لم أستأذنه، وثانيا حتى لا يبدو الأمر إعلانا مجانيا للمطعم، ثم إن ما سأركز عليه فى السطور التالية أمر أبعد كثيرا من قصة المطعم.
هنأت الزميل وتمنيت له التوفيق، وحاولت أن أفهم منه ما الذى دفعه إلى هذه الخطوة التى تعتبر غريبة إلى حد ما، فقال لى بوضوح: «أنا لا أعانى من أى حصار أو تضييق إعلامى.. ولا يوجد لدى أى شعور بالمظلومية، وأحب وأعشق إعداد الأكل، وأرى أنه يقرب الناس من بعضهم البعض، ويجعل بينهم عيش وملح».
الزميل لم ينكر رغبته فى تحسين دخله من وراء هذه الخطوة. هو قال لى: «إنها تجربة وسوف يخوضها، ويقيمها، لكى يقرر هل تستمر أم لا».
طلبت من الزميل أن يرسل لى وجبة، لكى أساهم فى إنجاح مشروعه، فقال لى إن اليوم الأول شهد ارتباكا قليلا، لكنهم تمكنوا من توصيل كل الطلبات للزبائن.
انتهت المكالمة، ولم أعرف هل أشارك كثيرا من الزملاء سخريتهم من الموضوع، أم أقدر خطوة الزميلين اللذين قررا أن يخوضا تجربة جديدة، حتى لو كانت صادمة للكثيرين منا.
وفى النهاية حسمت أمرى بأنه من الخطأ التعامل مع أى تجربة أو مبادرة، بالتسفيه والتشويه والسخرية، من دون النظر لرغبة ورؤية أصحابها.
العلاقة بين الصحافة والطبيخ قوية جدا. وطوال الوقت نستخدم مصطلح «المطبخ الصحفى»، ونقول فلان فى المطبح يعنى متداخل بشكل كامل فى صناعة الاخبار.
ونقول أيضا أن «الطبخة شاطت» على الخبر أو القصة التى لم تكتمل أو انحرفت عن مسارها.
والقصة الجيدة المكتملة مثل «الطبخة الجيدة» فى جميع عناصرها.
لكن فى جوهر الأمر أيضا فإنه لا يمكن النظر لهذا الموضوع، الذى يراه البعض فكاهيا أو خفيفا، بمعزل عن الأوضاع التى تعيشها الصحافة المصرية هذه الأيام.
هل هناك مشاكل فى مهنة الصحافة المصرية هذه الأيام تدفع كثيرين للذهاب إلى مهن أخرى؟ الإجابة هى: نعم. وهى مشاكل بعضها صار وجوديا ويهدد صميم المهنة نتيجة الارتفاع الحاد فى أسعار مستلزمات إنتاج الصحف خصوصا الورق، ثم تراجع نسب الإعلان، وأخيرا التراجع الحاد فى محتوى الصحف، بالنظر إلى عدة عوامل منها تدهور المستوى المهنى، وتراجع هامش الحريات، خصوصا بعد صدور ثلاثة قوانين تنظم عمل الصحافة والإعلام.
هذه العوامل مجتمعة الاقتصادية والمهنية والتشريعية، جعلت العديد من الزملاء، يخسرون وظائفهم أو تنخفض رواتبهم، أو يحاولون البحث عن مهنة أخرى إذا وجدوها. وبالتالى فإن الصحافة المصرية تعيش الان واحدة من أصعب فتراتها، وتواجه تحديات حقيقية.
لكن لم أتخيل مطلقا أن يبدأ بعض الصحفيين فى الخروج من «المطبخ الصحفى» بمعناه المعنوى، إلى «المطبخ الحقيقى» بمعناه الأصلى.
فى كل الأحوال خالص التوفيق للزميلين، ولكل من يفكر خارج الصندوق بدلا من الدخول فى الحالة الكافكاوية السوداوية المعروفة. ونتمنى أن يكون الزميلان آخر من يهجر مهنة الصحافة إلى الطبيخ!.
نقلًا عن الشروق القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع