بقلم: عماد الدين حسين
يحتار المرء كثيرا ويستغرب ويستعجب، ويسأل عن تفسير منطقى لهذا التعنت والمماطلة الإثيوبية التى وصلت إلى حدود التهديد بحشد عشرات الملايين لخوض الحرب ضد مصر.
السؤال المحير هو: على من تراهن إثيوبيا، وهى تمارس هذه الفتونة التى لا تتسق تماما مع أحوالها وظروفها وتتجاوز بكثير إمكانياتها وقدراتها فى شتى المجالات؟!
بكل المقاييس لا توجد أدنى مقارنة بين القدرات المختلفة بين مصر وإثيوبيا. عدد سكان البلدين متقارب بأزيد قليلا عن مائة مليون نسمة، لكن بخلاف ذلك فكل المؤشرات والمعايير والمقارنات تصب فى صالحنا، من أول الناتج القومى الإجمالى الذى يزيد بثلاثة أضعاف عن نظيره الإثيوبى، «أكثر من ٢٥٠ مليار دولار لمصر مقارنة بنحو ٨٤ مليار دولار لإثيوبيا،» مرورا بالقوة العسكرية، نهاية بأننا نسبق إثيوبيا فى كل المؤشرات العالمية تقريبا الخاصة بالاقتصاد.
الجيش المصرى وفقا لمؤسسة "جلوبال فاير باور" مصنف عالميا فى المراكز الـ١٢ عالميا، والجيش الإثيوبى فى المركز الـ٤٧ دوليا، ولم يستطع أن يتغلب على الجيش الإريترى فى «حرب ١٩٩٨ ــ ٢٠٠٠».
ربما تكون الميزة النسبية المهمة لإثيوبيا هى كميات الأمطار المهولة التى تسقط عليها، وتزيد على ألف مليار متر مكعب سنويا، لكن طبيعتها الجغرافية كهضبة وضعفت بنيتها التحتية وتهالكها، لم يجعلها تستفيد من هذه الكميات المهولة، فى حين أن مصر لا تحصل إلا على ٥٥٫٥ مليار متر مكعب وتمكنت بخبراتها المتراكمة تاريخيا من ترويض النهر والاستفادة منه.
إثيوبيا بدأت انفتاحا اقتصاديا منذ سنوات، والمؤسسات الدولية تتحدث عن تغيرات عميقة فى الاقتصاد الإثيوبى، ومعدل نمو مرتفع، لكن كل ذلك لا يقارن إطلاقا مع القوة المصرية الشاملة.
السؤال: إذا كانت تلك هى الحالة، فما هى الأسباب الغامضة التى تدفع إثيوبيا إلى هذا الاستئساد على مصر وحقوقها التاريخية فى مياه النيل؟!
القصة باختصار ليست وليدة اليوم، والحكومات الإثيوبية المتعاقبة فى العقود الأخيرة، تكن حقدا لا مبرر له ضد مصر والمصريين، وليس فقط ضد الحكومات والأنظمة.
هذه الحكومات تحاول طوال الوقت أن تعلق فشلها فى الحكم على شماعة الخارج. رسالتهم المكررة أن حصول مصر على مياه النيل جعل كل مصرى يقيم فى فيلا ولديه حمام سباحة فى بيته ومزارع واسعة من الخضار والفاكهة، فى حين يعانى الإثيوبى من الفقر والمجاعة بل والعطش، رغم ان النيل ينبع من بلاده!
هذه هى الأسطوانة المشروخة التى تكررها الحكومات الإثيوبية المتعاقبة، لكنها لا تقول لشعبها الحقيقة، وهى أنهم يزرعون أكثر من 100 مليون فدان مقابل أقل من عشرة ملايين فدان فى مصر، وأن ما يهبط عليهم هو أكثر من ألف مليار متر مكعب سنويا لا نحصل منها إلا على 55 مليار متر مكعب، فلماذا فشلوا فى الاستفادة من هذه الكميات المهولة. والنقطة الثانية والجوهرية أن مصر وافقت رسميا على بناء السد، حتى تتمكن إثيوبيا من توليد الكهرباء وكل ما نطلبه ضمان أن يكون السد آمنا وأن يتم ملؤه وتشغيله بصورة لا تؤثر على أمن مصر وحصتها المائية.
الطريقة التى تصرفت بها إثيوبيا فى الشهور الأخيرة، خصوصا انسحابها الطفولى من مفاوضات واشنطن، كشفت أنها تراهن على فرض أمر واقع، وتحويل السد النهضة إلى مخزن وبنك للمياه لتعطيشنا أو لتحقيق مصالح لقوى إقليمية ودولية مختلفة لا تريد الخير لمصر.
إثيوبيا تراهن على أن هناك قوى إقليمية ودولية تريد منها ابتزاز مصر بحصتها من المياه، وتراهن أن هذه القوى ستتدخل لمنع مصر من الحفاظ على حقوقها.
تراهن إثيوبيا على أن مصر لن تتحرك بسبب أن غالبية دول القارة الإفريقية سيساندون أديس أبابا مقر الاتحاد الإفريقى، وأنهم يشاركونها نفس النظرة تجاه مصر وتجاه الدول العربية فى القارة الإفريقية.
هى تراهن على أن أمريكا تتعامل معها باعتبارها نقطة الارتكاز الأساسية للاستراتيجية الغربية فى القارة الإفريقية.
هى تراهن على دعم تركى وقطرى متزايد نكاية فى الموقف المصرى المتصادم مع الطموح التركى فى المنطقة بأكملها.
هى تراهن على الاستثمارات الصينية والإيطالية والخليجية المتزايدة فى إثيوبيا، وأن هذه الدول ستعارض أى خطوات ضدها.
هى تراهن على حشد غالبية شعبها إذا تحركت مصر، خصوصا أن هؤلاء يعتقدون أن سبب شقائهم هو مصر، وليس فشل سياسات حكوماتهم المتعاقبة.
من حق إثيوبيا أن تراهن على من تشاء، لكن من حقنا نحن أيضا أن نرسل لهم رسالة واضحة وبسيطة مفادها الآتى:
«لن تنعموا بأى تنمية أو استقرار أو تقدم، إذا تعرضت حقوق مصر المائية للضرر».. إما أن ننعم معا بالاستقرار والأمن والتنمية، وإما فلتتحملوا العواقب!