من يقود من: السياسة أم الاقتصاد، خصوصا فى منطقة الشرق الأوسط؟!.
البعض لا يزال يجادل، لكن كل يوم، هناك دليل على أن الاقتصاد، هو القاطرة، والسياسة تتبعه!.
هناك مثال عملى وشيق جدا، يلخص لنا الإجابة عن هذه المعضلة..
فى ٢ أكتوبر الماضى، قتل الكاتب الصحفى السعودى جمال خاشقجى بطريقة وحشية داخل قنصلية بلاده فى إسطنبول، على يد فريق من أجهزة الأمن السعودية.
وبعد أيام وفى ٢٣ أكتوبر، انعقد منتدى مستقبل الاستثمار «دافوس الصحراء»، الذى ينظمه صندوق الثروة السعودية، ويتحدث فيه سنويا ولى العهد محمد بن سلمان.
غالبية كبار رجال السياسة ورؤساء الشركات العالمية الكبرى، أعلنوا مقاطعتهم للمؤتمر احتجاجا على مقتل خاشقجى، ومن هؤلاء وزير الخزانة الأمريكى ستيفن منوتشين، وكذلك وزير مالية هولندا، ووزير خارجية الدانمارك اندرس صموئيلسن، ومديرة صندوق النقد الدولى كريستين لاجارد، ورئيس البنك الدولى وقتها جيم يونج كيم، والرؤساء التنفيذيون لكبرى الشركات العالمية مثل دوتتش بنك وجيه بى مورجان تشيس، وبلاك روك انك، وسوفت بنك، وإتش إس بى سى، ورئيس بورصة لندن.
للوهلة الأولى فإن هذه الانسحابات والمقاطعة الشاملة من كبار المسئولين السياسيين ورؤساء الشركات الدولية، تؤكد أن السياسة هى من تقود الاقتصاد، وأن المبادئ تتقدم على الدولارات واليوروهات وبراميل البترول! لكن التطورات اللاحقة تقول عكس ذلك تماما!.
بعد لحظات من إعلان كبار المسئولين ورؤساء الشركات مقاطعة مؤتمر دافوس الصحراء، فوجئنا ببعض وسائل الإعلام تكشف لنا الخدعة، وهى أن الكبار قاطعوا شكلا، لكنهم أرسلوا مسئولى الصف الثانى والثالث والرابع، لكى يضمنوا جزءا من الكعكة، والصفقات الكثيرة التى كانت تنتظرهم فى هذا المؤتمر.
أما الذى اتخذ موقفا عمليا براجماتيا سافرا، فكانت الحكومة الروسية التى شاركت بوفد من ثلاثين من كبار رجال الأعمال رؤساء الشركات والشخصيات العامة بقيادة كيريل ديمتريف الرئيس التنفذى لصندوق الاستثمار المباشر، وهو الذى لعب دورا بارزا فى اقناع الرئيس الروسى فلاديميربوتين بتقوية العلاقات مع السعودية.
الدليل الثانى والكبير والمهم على أن الاقتصاد هو من يوجه السياسة هو أن غالبية من قاطعوا رسميا مؤتمر دافوس الصحراء فى أكتوبر الماضى، قد عادوا للسعودية مرة أخرى لحضور الدورة الأولى لمؤتمر القطاع المالى فى الرياض يومى الأربعاء والخميس الماضيين.
من بين هؤلاء جون فلينت الرئيس التنفيذى لبنك «HSBC» الذى أشاد بنسق الإصلاحات المتسارع فى السعودية.
ليس فلينت فقط هو من عاد، ولكن عاد معه أيضا كل من لارى فينك الرئيس التنفيذى لشركة بلاك روك، ودانيل بينتو الرئيس المشارك فى «جى بى مورجان تشيس»، وكذلك رئيس بورصة لندن، ومعه أيضا رئيس مجموعة ميتسوبيشى يو. إن. جيه الذى غاب أيضا عن مؤتمر أكتوبر.
المعنى الرئيسى لعودة هؤلاء أنهم يريدون تعويض جزء مما فاتهم، وأنهم طووا تماما صفحة مقتل خاشقجى.
سيسأل سائل: وماذا تريد أن تقول من وراء كل هذا الكلام؟!.
كصحفى وإنسان أدين بأشد العبارات الممكنة مقتل خاشقجى، وكذلك الطريقة الهمجية التى قتل بها، وقد كتبت فى هذا المعنى أكثر من مقال فى هذا المكان والأرشيف شاهد على ذلك، لكن اليوم أتحدث عن المصالح الكبرى التى تدوس وتجرف فى طريقها الكثير مما يقال عن المثل والمبادئ!.
نتذكر أن موقف الرئيس الأمريكى دونالد ترامب كان الأكثر براجماتية، وقال إن ما يشغله هو الصفقات، وأنه إذا استجاب لمطالب الصحفيين وبعض أعضاء الكونجرس وجمد علاقته مع السعودية، فالمستفيد الوحيد سيكون الشركات الصينية والروسية.
الشركات الغربية الكبرى تسعى للحصول على مزيد من العقود فى أكبر اقتصاد عربى، وأكبر مصدر للنفط فى العالم، خصوصا أن ذلك يتزامن مع عملية إصلاح اقتصادى ضخمة وبالأخص فى مشروع نيوم وخطة جذب استثمارات صناعية بمليارات الدولارات، وكذلك عملية طرح بعض أسهم شركة آرامكو العملاقة فى البورصة، وقد تلقت الشركة طلبات اكتتاب تزيد على مائة مليار دولار لأول سندات دولية لها فى اقتراع قياسى لثقة السوق.
هل معنى كل ما سبق أن يستسلم الجميع لسلطان المال ؟!.. بالطبع لا، وعلى كل صاحب ضمير ألا يتوقف عن أن يصدع بالحق، لكن عليه أيضا ألا يراهن أكثر مما ينبغى على السياسة، فهى منقادة للاقتصاد، فى كل أنحاء العالم!.