بقلم: عماد الدين حسين
فى أحد أيام شهر إبريل ٢٠١١، وكنت وقتها مديرا لتحرير «الشروق»، تلقيت دعوة من المجلس الأعلى للقوات المسلحة للالتقاء والنقاش مع أربعة من أعضائه، وكانوا وقتها اللواء عبدالفتاح السيسى مدير المخابرات الحربية، والفريق عبدالعزيز سيف الدين قائد الدفاع الجوى، واللواء محمود حجازى الذى صار رئيسا للأركان فيما بعد، واللواء مهندس محمد العصار.
مازلت أتذكر وقائع هذه الليلة حتى الآن.
اللقاء كان فى أحد فنادق القوات المسلحة بمصر الجديدة، وبدأ فى السابعة مساء، واستمر للثانية صباحا وتواصل النقاش حتى أثناء تناول العشاء وكان موجودا معى أيضا الاعلامية لبنى عسل.
هذا اللقاء كان فى إطار لقاءات منظمة يعقدها المجلس الأعلى للقوات المسلحة مع كتاب وصحفيين وإعلاميين وسياسيين وشخصيات عامة، ليعرفوا رأيهم فيما حدث وتصوراتهم للمستقبل.
فى هذه الليلة قدم السيسى عرضا وافيا لما حدث منذ يوم ٢٥ يناير وحتى لحظة الاجتماع، ثم تحدث بقية أعضاء المجلس الأعلى. أتذكر جيدا أن اللواء العصار ناقشنى فى تفاصيل ما أكتب فى عمودى اليومى، وتبادلنا الهواتف.
منذ إبريل ٢٠١١ تطورت علاقتى بالفريق العصار من علاقة عمل إلى علاقة مودة ومحبة وصداقة أقرب إلى الأبوة، تعرفت خلالها على أسرته، خصوصا ابنه المهندس أحمد، الذى تربطنى به علاقة قوية منذ الأحداث الملتهبة التى أعقبت ثورة ٢٥ يناير وحتى الآن.
كنت أتصل بالعصار دائما، للاطمئنان عليه، أو لفهم ما استغلق على من أمور وقضايا، وكان يتصل فى مرات كثيرة ليناقشنى فيما أكتب أو ما تنشره الشروق خصوصا بعض المقالات، وبعد أن صار وزيرا كان يسألنى أحيانا لماذا لم تنشر «الشروق» بعض أخبار وزارة الإنتاج الحربى.
كنت أعرف أن العصار كان كنزا من المعلومات المهمة جدا لى كل ما يتعلق بمصر خصوصا فى ملف التسليح والعلاقات العسكرية مع الولايات المتحدة، والدول الكبرى. وأظن أنه عندما يتم كتابة التاريخ بصورة منصفة، سوف يتم ذكره بحروف من ذهب على المجهود الخرافى الذى بذله لسنوات طويلة فى إقناع الكونجرس والإدارات الأمريكية المتعاقبة بأهمية علاقات البلدين واستمرار العلاقات والمساعدات العسكرية التى كانت قوى وأطراف ودول كثيرة تسعى لتعطيلها.
ورغم أن العصار رجل عسكرى تخرج فى الفنية العسكرية وشارك فى حربى الاستنزاف وأكتوبر، فقد كان الصوت السياسى الأبرز فى السنوات العشر الماضية. وهو الرجل الدى تجمعت عنده كل ملفات الأحداث الساخنة فى مصر منذ ثورة ٢٥ يناير وحتى استقرار الأوضاع بعد ثورة ٣٠ يونيه.
كان نموذجا من طراز فريد، وكانت لديه قدرة فائقة على التواصل مع الجميع، إذا رأى أنهم يمكن أن يفيدوا فى بناء الوطن والمستقبل. إحدى أبرز صفاته أنه كان إنسانا ورغم كل ما وصل إليه من مناصب فقد كان شديد التواضع ويحرص على التواصل والاطمئنان على كل من يعرفهم، ولذلك يمكن فهم حب الكثيرين له سواء بين المدنيين والعسكريين، كنت أقول له إنه من الغريب أن الصوت السياسى البارز فى السنوات الأخيرة هو رجل عسكرى.. أليس هذا أمرا غريبا. وفى كل مرة كان يقابل كلامى بابتسامته المعهودة من دون تعليق.
ومثلما كان له دور مهم غير معلن فى ملفات عديدة قبل أن يتولى منصب وزير الإنتاج الحربى، فقد صار له دور غاية فى الأهمية بعد دخوله الوزارة، خصوصا فى مسألة التصنيع المدنى. فى عهده تمكنت الوزارة إضافة لدورها الطبيعى فى الإنتاج الحربى، من الدخول فى مجالات عديدة للتصنيع المدنى، بما وفر على البلاد الكثير خصوصا فى العملة الصعبة.
محمد العصار نموذج نادر ويثبت خطأ الفكرة القائلة بأن السياسى أو الشخصية العامة لابد أن يكون بلا قلب وأحيانا بلا ضمير، وتحركه فقط مصلحته.
العصار كان مرنا ومثقفا ومطلعا ويسأل عن أى كتاب جديد، وكان خبيرا استراتيجيا بحق وحقيق، قبل أن يتم ابتذال هذا المصطلح كثيرا فى فترات لاحقة.
برحيل العصار تفقد مصر رجلا كبيرا وعظيما، قدم الكثير لبلده ووطنه وأمته فى السر والعلن، ولذلك يمكن فهم سر حالة الحزن العام التى عمت البلاد عقب الإعلان عن رحيله عصر يوم الإثنين الماضى. خالص العزاء لكل الشعب المصرى وللرئيس عبدالفتاح السيسى الذى كان يجله ويعزه كثيرا، وللقوات المسلحة المصرية ووزارة الإنتاج الحربى ولأسرته الصغيرة وكل محبيه.