ندعو الله ألا ينزلق السودان الشقيق إلى المزيد من الانقسامات، التى تعقبها فوضى، تقود إلى صراعات وربما حروب، قد تعيده ــ لا قدر الله ــ مئات السنين إلى الوراء.
وللأسف، فإن غالبية الأطراف السوادنية الفاعلة، تصر على ممارسة سياسة «المباراة الصفرية»، أى الرغبة فى الحصول على كل شىء، وحرمان الآخرين من كل شىء.
والأسف الأكبر أن غالبية الثائرين، والمتعاطفين معهم فى المنطقة، يتعاملون مع المسألة بنفس الطريقة أى «الأبيض والأسود» فقط، واستبعاد بقية مكونات الصورة تماما.
سيقول البعض: ولكنه وقت الاختيار والحسم، وليس الميوعة وإمساك العصا من المنتصف!.
كلام يبدو جذابا، لكن تجارب السنوات الماضية، علمتنا أن نجاح الثورات فى إزالة الحاكم المستبد هو الجزء الأسهل من المشكلة، وأن إدارة فترات الانتقال بنجاح، هى الأصعب، ومن يعتقد أنه سيحصل على كل شىء ويسحق الآخرين تماما، يعيش فى وهم كبير.
كل المتابعين الجادين للشأن السودانى، كانوا يدركون أن ما حدث صباح الاثنين الماضى، بفض اعتصام «قوى التحرير والتغيير» أمام مقر القيادة العامة للقوات المسلحة السودانية، كان أمرا متوقعا تماما.
المأساة الكبرى هى اعتقاد البعض أن الأحوال ستتغير من النقيض للنقيض، بتغيير البشير فقط، أو بإعلان، أو تولى شخص ما المسئولية. هذا لن ينجح، لأن التغيرات الجوهرية فى حياة الشعوب، تتم بتفاعلات كثيرة، وتستغرق غالبا وقتا ليس بالقصير.
أعذر بعض المتحمسين المثاليين فى الشارع السودانى والعربى، خصوصا بين «قوى الحرية والتغيير»، الذين يعتقدون أن مجرد تشكيل حكومة مدنية سينهى الأزمة. أعذرهم لأننا نحن فى مصر،عشنا هذه المرحلة بكل تفاصيلها بعد تنحى حسنى مبارك، وعاشها الليبيون بعد مقتل القذافى، واليمنيون بعد الثورة على عبدالله صالح، وكاد السوريون يعيشونها بعد الأيام الأولى للثورة، على بشار الأسد، بل ظن العراقيون، أن مجرد سقوط صدام حسين يعنى نهاية كل المشاكل.
غالبية شعوب البلدان التى شهدت انتفاضات وثورات، يترحمون الآن على الحكام السابقين، ليس لأنهم كانوا عادلين وديمقراطيين، ولكن لأن المشاكل عميقة ومتراكمة، والمجتمعات تحتاج للكثير، لكى تنتقل من حالة الجهل والاستبداد والتخلف إلى العلم والديمقراطية والتقدم.
ما كانت تحتاجه هذه الدول التى دخلت فى هذه التجارب، هو شخص أو حزب يمثل دور الجسر أو الكوبرى الذى ينقلها من العهد القديم للجديد، بأقل قدر من الخسائر. وهذا الجسر هو جوهر ما يحتاجه السودان الآن.
تشبيه وتعبير «الكوبرى أو الجسر» ليس اختراعى، لكنى استمعت إليه من الباحث السياسى المرموق الدكتور عمرو الشوبكى، خلال سحور رمضانى بالقاهرة، كان معنا فيه العديد من الكتاب والصحفيين ومنهم الدكتور بشير عبدالفتاح.
غالبية الأحزاب الفاعلة فى قوى الحرية والتغيير بالسودان، تريد نسفا لكل القديم، وشخصيا أتمنى حدوث ذلك، لكنه مستحيل للأسف، فلا يمكن محو كل سنوات البشير الثلاثين فورا لمجرد رغبتنا بذلك.
البشير مكّن الإخوان من جميع مفاصل الدولة، وغالبية من تولوا مناصب قيادية أنصاره، أو المؤمنون بفكر الإسلام السياسى. سيكون صعبا جدا محو كل هؤلاء مرة واحدة، مثلما اعتقدنا خطأ أن كل شخص تولى المسئولية أيام مبارك كان من الفلول!!
والحمد لله أن إخوان مصر لم يحكموا إلا لمدة عام، ولم يستطيعوا أخونة الدولة، وإلا كنا عانينا كثيرا.
الرجل أو الحزب «الكوبرى» الذى يحتاجه السودان تكون مهمته وضع السياسات والأفكار والبرامج الصحيحة، ونقل المجتمع للمستقبل بأقل الخسائر. لو حدث ذلك فسيتم إصلاح كل الأخطاء شيئا فشيئا.
لا ألوم فقط قوى الحرية والتغير، لكن ألوم بعض المتنفذين داخل المجلس العسكرى الانتقالى، الذين يعتقدون أن كل ما حدث فى الثورة مجرد «لعب عيال» ويمكن احتواؤهم أو قمعهم وتعود ريما لعادتها القديمة.
قلت قبل ذلك وأكرر اليوم أن مشاكل السودان، أصعب من غالبية مشاكل الدول العربية، وبالتالى تحتاج لعقول خبيرة ومتسامحة وواقعية.
المشكلة الأكبر أن عواطف بعض الجماهير المثالية فى الميادين، وتربص بعض القوى المتآمرة داخليا وخارجيا تساهم فى أوقات كثيرة فى صب الزيت على النار.
على الأشقاء بالسودان التبصر والتعقل والتروى، حتى لا يصلوا إلى يوم يقولون فيه «ولا يوم من أيامك يا بشير!!!».
الحمد لله رحل البشير بكل أخطائه، التى أوصلت السودان لوضعه الكارثى حاليا، وهى خطوة مهمة، لكن الأهم هو النجاح فى العبور من المرحلة الانتقالية.