فى السادسة والنصف من صباح الثلاثاء الماضى، كنت فى طريقى إلى العاصمة الإدارية الجديدة لحضور افتتاح ثلاث محطات كهربائية. كانت تسير أمامى سيارة ربع نقل على طريق العين السخنة، وتحمل أكثر من ١٢ شخصا معظمهم أطفال لا تتجاوز أعمارهم الخامسة عشرة تقريبا. أحد هؤلاء ــ ويبدو من مظهره أنه لم يتجاوز العاشرة ــ كان يمسك بسيجارة فى يده، فى هذا الوقت المبكر من الصباح.
المشهد استفزنى للغاية، وفكرت للحظات أن أحاول إيقاف السيارة، لأقنع هذا الطفل بإطفاء السيجارة والتوقف عن هذا العبث، لكننى خشيت أن أدخل فى شجار مع سائق السيارة، ومن يجلس بجواره، يؤخرنى عن الوصول لحفل الافتتاح فى الوقت المحدد.
الماسآة أن هذا المشهد ليس استثنائيا، ولكنه يتكرر بصورة يومية. شاهدت هذا المشهد فى العديد من الأماكن بمختلف أنحاء الجمهورية فى قرى ومدن بأسيوط، وفى حى السيدة زينب الشعبى، وحى الزمالك الراقى بالقاهرة وعلى كورنيش الإسكندرية.
لا يعرف خطر وخطورة التدخين إلا من جربه وتوقف عنه، والعبد لله أدمن التدخين لربع قرن بالتمام والكمال منذ دخولى إعلام القاهرة عام 1982 حتى عام 2007. لكن من نعم الله الكثيرة على، أننى تمكنت من الإقلاع عن التدخين منذ ظهر يوم الحادى عشر من إبريل عام ٢٠٠٧، حينما كنت أعمل صحفيا فى جريدة «البيان» الإماراتية فى دبى، ومن يومها لم أدخن سيجارة واحدة، بل أصاب بالغثيان والقرف إذا تواجدت بجوار مدخن، وشممت رائحته الكريهة.
صار معروفا أننا كمصريين نحتل مرتبة متقدمة جدا بين الأمم فى مجال التدخين، وقبل أيام قليلة قال تقرير لمنظمة الصحة العالمية، أن استهلاك المصريين للتبغ يعد من أعلى معدلات الاستهلاك على المستوى الإقليمى والعالمى وأن ٢٢٫٨٪ من المصريين مدخنين، وهذه النسبة ترتفع بين الرجال لتصل إلى ٤٣٫٤٪، ولكنها تنخفض بين النساء إلى ٠٫٥٪.
نسبة تدخين النساء فى هذا التقرير منخفضة جدا، وأعتقد أنها ليست دقيقة، لأن المؤشرات والشواهد تقول إن النسب فى تزايد مستمر، ويكفى إلقاء نظرة على المقاهى الشعبية والكافيهات المختلفة، لنكتشف أن نسب تدخين السيدات تزيد بشكل لافت للنظر، ليست فقط للسجائر ولكن للشيشة أيضا.
والمحزن أنه بينما تنخفض نسبة التدخين فى غالبية بلدان العالم تزيد عندنا، والأسوأ أنها تزيد بين الأجيال الجديدة، وليس كبار السن فقط الذين يصعب على معظمهم الإقلاع عنها.
حينما تسافر إلى أى بلد أوروبى تعرف الفرق الواضح بيننا وبينهم! القوانين والإجراءات تكاد تلاحق المدخنين فى كل مكان غير مسموح بالتدخين فى المواصلات العامة، وكذلك أماكن العمل، وبعض المدن تحرم التدخين حتى فى المنازل إذا كان هناك أطفال صغار. وصارت تحاصر المدخنين، وتعاملهم كالمنبوذين. وفى مصر، وصلت الفوضى إلى أن أى شخص يمكنه التدخين فى أى مكان وزمان، بل يدخن فى سيارته الخاصة وابنه الصغير معه!.
مثل هذه النوعية ــ وهى كثيرة للأسف ــ لا تدرك خطورة ما تفعله. والأسوأ أن العديد من الشباب صغير السن لا يزال يصدق أن التدخين إحدى العلامات على «الرجولة».
الوعظ لا يفيد فى محاربة التدخين، لأننى أتذكر أننى كلما كنت أقرأ لمن يحذر من أضرار التدخين مثلما كان يفعل الكاتب الكبير صلاح منتصر، أقوم بإشعال سيجارة فورا!!.
المطلوب أن نبحث عن طرق مبتكرة طوال الوقت، لنقنع الجميع، خصوصا صغار السن بأن التدخين قاتل محترف، حتى لو تأخر الوقت. مطلوب أن نكرر المبادرات، ونستخدم كل وسائل التأثير لنصل إلى هذه الفئة المغلوبة على أمرها، لنقنعها بالتوقف قبل فوات الأوان.
وزارة التضامن الاجتماعى تبذل جهدا مهما فى محاربة الإدمان بأنواعه المختلفة، والفنان الكبير محمد صبحى له دور مهم أيضا فى هذا المجال.
لن أبالغ إذا قلت أن التدخين مرض، وهو أخطر على الأمن القومى من كثير من الملفات التى نظن أنها مهمة. هو يقتل صحة المصريين ببطء، ويكلف الدولة المليارات سنويا، وحينما يتحالف مع المخدرات، تصبح المأساة مكتملة، وهو موضوع يحتاج إلى شرح أكثر تفصيلا.
قلبى مع كل مدخن حتى يتوقف، ومع كل مريض بسبب التدخين حتى يشفى، ويكتشف أن الحياة بلا سيجارة أفضل تريليون مرة.
نقلًا عن الشروق القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع