هل يمكنك أن تتباكى على الصحافة والصحفيين وحرياتهم فى الخارج، وأنت تمارس أكبر عملية قمع للصحافة فى العالم تقريبا؟!.
للأسف هذا ما فعله الرئيس التركى رجب طيب أردوغان بمهارة فائقة، فى خضم مأساة مقتل الكاتب الصحفى السعودى جمال خاشقجى داخل قنصلية بلاده فى اسطنبول فى الثانى من أكتوبر الحالى.
أكاد أسمع صوتا فى هذه اللحظة يقول: وهل هذا وقته، ولمصلحة من تتحدث عن قمع الصحافة والصحفيين فى تركيا، فى الوقت الذى قتلت فيه السلطات السعودية صحفيا داخل قنصليتها، وفى الوقت الذى تتعرض فيه حرية الصحافة فى مصر لعراقيل كثيرة؟!.
الإجابة واضحة.. أكتب عن اردوغان اليوم، لأننى كتبت أكثر من مرة عن مقتل خاشقجى، وأدنت الجريمة بكل قوة فى هذا المكان، كما أننى كتبت عشرات المرات منتقدا تراجع الحريات الصحفية فى مصر واخرها قبل اسابيع، والأرشيف بيننا لمن كان متشككا.
مقتل خاشقجى «جريمة مقيتة لا يمكن تبريرها»، والمصادفة الغريبة أن أكثر شخص استفاد منها، وتاجر بها طولا وعرضا ــ أى أردوغان ــ هو نفسه الذى وجه ضربات موجعة للصحافة والصحفيين، منذ منتصف يوليو 2016.
جريدة «الواشنطن بوست» الأمريكية المعروفة، وهى رأس الحربة فى انتقاد السعودية بعد مقتل خاشقجى، سلطت الضوء يوم الخميس الماضى على ما أسمته السجل السيئ لتركيا فى التعامل مع الصحفيين، قالت إن حكومة أردوغان هى أكثر بلد يسجن الصحفيين فى العالم طبقا للجنة حماية الصحفيين.
هى أشارت إلى أن مهنة الصحافة لم تعش فترة أكثر إظلاما مما تعيشه الان. وتنقل عن صحفى معارض، ومقيم فى برلين يدعى دونار ان زملاءه يتعرضون للسجن والفصل والتشريد والمنع من السفر، والتهمة الجاهزة هى التحريض والحض على الكراهية ومساعدة الإرهابيين.
الاتحاد الدولى للصحفيين «IFJ» صنف تركيا كأكبر سجن للصحفيين فى العالم، للعام الثانى على التوالى، ويمثل الصحفيون المعتقلون فيها نصف عدد الصحفيين المعتقلين بالعالم، وترتيبها فى مؤشر حرية الصحافة الصادر عن منظمة «مراسلون بلا حدود» فى الترتيب 157 من بين 180 دولة فى إبريل الماضى.
منذ احباط الانقلاب أرسل 319 صحفيا إلى السجون، وصدرت مذكرات اعتقال بحق 142 صحفيا آخرين مشردين خارج البلاد، وحوكم قضائيا 839 صحفيا فى قضايا نشر خلال العام 2017، وفقا لمؤسسة الصحفيين الأتراك، فضلا عن اعتقال 124 صحفيا ممن كانوا يعملون فى المؤسسات الإعلامية التابعة لفتح الله جولن بتهم «الانضمام إلى منظمة إرهابية والترويج للإرهاب ومحاولة الانقلاب». ويوجد أيضا 44 صحفيا فى السجون بتهمة الانتماء لحزب العمال الكردستانى، و11 صحفيا يساريا من صحيفة جمهوريت بتهمة العمل مع جولن.
من حق أردوغان وانصاره المتاجرة بالقضية، لكن عليهم التحلى ببعض التواضع وأن يتذكروا ماذا يفعل هو بالصحفيين؟.
السلطات السعودية ارتكبت جريمة شنعاء بحق خاشقجى، لكن أردوغان يقود الان واحدة من أكبر حملات القمع العالمية ضد حرية الصحافة.
قضية خاشقجى هبطت على اردوغان كهدية من السماء فى اصعب اوقاته خصوصا الاقتصادية. لكن يفترض بأنصاره خصوصا أولئك الذين يعتقدون أنه مثل أعلى ونموذج للإسلام المعتدل، ان يطبقوا عليه نفس المعايير التى يطبقونها على خصومه وخصومهم فيما يتعلق بحرية الصحافة والصحفيين.
لا أستغرب من أى اعلامى إخوانى أو متعاطف مع الجماعة، ان يشمت فى السعودية الان، لكن عليه ان يسأل نفسه بهدوء: هل هو يكره السعودية ويدافع عن خاشقجى فقط، أم انه مؤمن فعلا بحرية الصحافة والصحفيين فى كل مكان حتى لو كانت تركيا؟!.
أحد المواقع الساخرة كتب يقول ان أردوغان بعث برسالة يعاتب فيها المسئولين السعوديين على الطريقة الفجة التى قتلوا بها خاشقجى، وقال لهم إذا كنتم تريدون قصف قلم هذا الصحفى أو غيره، فلماذا لم تستشيرونى أو حتى تقلدونى، لقد سجنت مئات الصحفيين وأغلقت عشرات الصحف والقنوات الفضائية، وقيدت مساحة الحرية بشكل كبير، لكن لم يتمكن أحد من أن يمسك على غلطة واحدة!!
مرة أخرى ما حدث لخاشقجى مأساة مكتملة الأركان، وما تفعله غالبية البلدان العربية بحق الصحافة والصحفيين، قمع لا يمكن التماس الأعذار له، لكن ما يفعله أردوعان أيضا كارثى.. هل يعنى ذلك أننا نبرر ــ لا سمح الله ــ قتل خاشقجى؟ حاش لله مرة أخرى، لكن على الذين يتباكون على حرية الصحافة فى السعودية ومصر وغيرهما، أن يلتفتوا قليلا إلى ما يفعله بها أردوغان؟!
نقلًا عن الشروق القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع