بقلم: عماد الدين حسين
احتلت أمريكا العراق بمساعدة بريطانية فى ٢٠٠٣ لإسقاط صدام حسين، وبحجة نشر الديمقراطية، فكانت النتيجة بعد ١٦ سنة هى تسليم العراق تقريبا لإيران، وبروز القوى والأحزاب والعقليات الطائفية، وتشجيع المنظمات الإرهابية، وفى الختام اقتحام مجموعات عراقية موالية لإيران للسفارة الأمريكية فى بغداد، ومحاولة إحراقها، ثم تصويت البرلمان العراقى قبل ايام على اخراج كل القوات الاجنبية فى اشارة واضحة للقوات الأمريكية!
إنه مكر التاريخ، وعقابه القاسى لأولئك الذين يحاولون تطويعه بالقوة الغاشمة. من كان يتصور أن الولايات المتحدة التى رفعت لسنوات طويلة شعار «احتواء إيران» وحصارها، سوف ينتهى بها الحال فى العراق، لتكون مهددة طوال الوقت من قبل إيران، التى تحولت إلى اللاعب الأساسى فى الشئون العراقية منذ سنوات طويلة؟!
التطور الجديد والخطير أن أمريكا قتلت رجل ايران القوى قاسم سليمانى، ومعه بعض قادة الحشد الشعبى يوم الجمعة الماضى قرب مطار بغداد، وقبلها بأيام وجهت ضربة جوية لحزب الله العراقى فى بلدة القائم قرب الحدود السورية، أدت إلى مقتل ٢٥ شخصا وإصابة العشرات. وبعدها تظاهر الآلاف من العراقيين معظمهم عناصر فاعلون فى «الحشد الشعبى»، او متعاطفون معه، وتوجهوا إلى السفارة الأمريكية محاولين إحراقها، وهو الأمر الذى أحرج الحكومة بصورة شديدة، حيث تجد نفسها بين نارين، نار أمريكا التى ما يزال لها النفوذ الكبير، ونار إيران وحلفائها فى الداخل!
من كان يتصور أن الغزو الأمريكى للعراق فى مارس ٢٠٠٣، سيكون أفضل هدية قدمتها أمريكا «الشيطان الأكبر» لعدوتها اللدودة إيران؟!.. كان ذلك صعب التصور، لكنه ما حدث على أرض الواقع. لم نلاحظ وقتها أن الذين عادوا على الدبابات الأمريكية لحكم العراق الجديد، كانوا يعيشون فى طهران، أو على صلة بها، بل هناك تسريبات استخبارية، تقول إن بعضهم كانوا عملاء مزدوجين للمخابرات الأمريكية والإيرانية.
طهران وقتها لم تعارض الغزو، ولم تقف ضده، ربما لأنها كانت تدرك أنها ستكون الفائز الأكبر، وهو ما حدث بالفعل، حيث صارت هى الناخب الأول فى العراق. حلفاؤها هم من يفوزون بأعلى الأصوات، وهى من تختار وتسمى رئيس الوزراء فى مرات كثيرة. ورجلها القوى الراحل قاسم سليمانى، كان هو الرجل الأقوى فى العراق، بل وفى المنطقة، خصوصا سوريا واليمن ولبنان. بضائعها تملأ الأسواق العراقية. وقادة الميليشيات أو «الحشد الشعبى» المسلحة بأسلحة متنوعة، يتحدون حكومتهم ويعلنون أنهم سوف يحاربون مع إيران، إذا اشتبكت مع أمريكا أو إسرائيل. المفاجأة السيئة لإيران أن غالبية الشعب العراقى قد اكتشف الخديعة الكبرى بعد كل هذه السنوات، وخرج فى مظاهرات عارمة ضد الطبقة السياسية الفاسدة، والأخطر أنه استهدف المصالح والوجود الإيرانى فى العراق، وهتف ضد إيران وقادتها ومرشدها والأحزاب الحليفة لها.
طهران تحاول عبر وكلائها الالتفاف على هذا الانقلاب الاستراتيجى. وفى النهاية بدأت تستخدم هؤلاء الوكلاء فى إزعاج الأمريكيين فى العراق بالمظاهرات حينا، وبصواريخ الكاتيوشا حينا آخر.
إيران استخدمت أمريكا فى العراق، لتحقيق أهدفها منذ عام ٢٠٠٣، بل ربما منذ غزو العراق للكويت فى ١٩٩٠، وحصلت على مكافآت مجزية، لكن يبدو أن أمريكا باغتيال سليمانى، تحاول سلب إيران بعض هذه الأوراق التى حصلت عليها. إيران اعتقدت أنها حصلت على الجائزة العراقية للأبد أو على الأقل لعقود طويلة، ثم استيقظت فجأة لتكتشف أنه لا شىء مضمون فى السياسة، وأنه لا يمكن الاعتماد فقط على حفنة من السياسيين، طالما أن الشعب نفسه وفى قلبه الطائفة الشيعية، قد ثاروا على كل الطبقة السياسية بغض النظر عن مذهبهم وعرقهم.
التاريخ كان شديد المكر مع الأمريكيين ومع الإيرانيين فى العراق. كل طرف اعتقد أنه فاز أو حصل على جوائز كبرى، استيقظ على كابوس كبير. الأمريكيون لم يصدقوا أنفسهم وهم يرون القوى السياسية التى حملوها على دباباتهم إلى قصور الحكم، تتمرد عليهم بل وتطالب بطرد ما تبقى منهم.
والإيرانيون الذين ظنوا أنهم هيمنوا تماما على العراق، فوجئوا بالشعب، وفى القلب منه الطائفة الشيعية، تثور على إيران، وتحرق قنصلياتهم وتهتف ضد رموزهم الدينية، وتبعث رسالة مهمة جدا لإيران ولأمريكا: أنهم عراقيون ويرفضون أى احتلال سواء كان أمريكيا أو إيرانيا، حقا ما أمكر التاريخ!