انقبض قلبى، حينما قرأت أن جريدة الحياة اللندنية سوف تتوقف عن الصدور فى نسختها الورقية ابتداء من أول يونيو الحالى فى لندن وباريس والقاهرة. الغريب أننى أعرف منذ شهور طويلة جدا مثل كثيرين أن هذا التوقف سيتم.
أحد طقوسى اليومية منذ سنوات طويلة أن اقرأ جريدة الحياة الورقية، ولم أكن من هواة موقعها الإلكترونى، رغم أن المادة واحدة تقريبا. كل يوم أحمل رزمة من الصحف معى إلى البيت، الاساس فى هذه الرزمة هما «الحياة» و«الشرق الأوسط»، والباقى متغير حسب أهمية الأخبار والموضوعات.. «الحياة» كانت الحب الأول.
فى بعض الأيام لم أكن أملك الوقت الكافى لقراءتها بالكامل، كنت أحملها فى يدى أو فى الحقيبة إلى البيت، وأقنع نفسى، أننى سأقرأها ليلا، خاصة بعض المقالات المهمة، ومع كثرة المشاغل تتكوم الأوراق وترتفع الأرفف ويزيد منسوب التراب، وتشكو زوجتى من هذا الإدمان، لكن لم أتوقف عنه حتى اللحظة.
«الحياة» فى إصدارها الثانى من لندن منذ أواخر الثمانينيات من القرن الماضى، كانت أول تجربة على حد علمى تصدر بتمويل سعودى، من دون أن يطغى على محتواها أثر هذا التمويل بالصور السافرة التى نراها فى الصحافة الخليجية الرسمية.
«الغترة والعقال» و«سموه» و«طال عمره» و«حفظه الله»، لم تكن موجودة فى الصفحات الأولى للحياة بفجاجة، بالطبع هى تقوم بالتخديم على التوجهات السعودية بشكل عام، ولكن كان ذلك يتم بصورة مهنية إلى حد كبير.
يحسب لصناع محتواها ومطبخ تحريرها ــ ومعظمهم من الأخوة اللبنانيين ــ أنهم حافظوا على الحد الأدنى الممكن من المهنية، فى أخبار الصفحة الأولى كان الترتيب يتم على أساس الأهم فالمهم. حتى فى أخبار تغطية قضايا تكون السعودية الطرف الأساسى فيها، كانت المعالجة مهنية إلى حد ما، بمعنى عدم إغفال وجهة النظر الأخرى، بل أنه فى معالجة الملف الفلسطينى. كنت تستطيع أن تقرأ وجهة النظر الإسرائيلية.
إضافة إلى جانبها الخبرى المهم، فإن مقالات الرأى فى الحياة كانت إضافة كبيرة. صحيح أن معظمها كان محكوما بسقف لا يمكن تجاوزه، شأن ما هو موجود فى كل الصحف العربية بلا استثناء، لكن هامش الحركة لدى الكتاب كان كبيرا، ويقدم تصورات ورؤى وتحليلات معقولة للأوضاع العربية المأزومة دوما.
كنت أنتظر بشغف مقالات غسان شربل قبل انتقاله للشرق الأوسط، وأتابع «عيون وآذان» جهاد الخازن، خصوصا الفكاهية منها والاثنان التقيهما باستمرار فى المنتديات الصحفية العربية. ولا يمكننى أن أترك مقالا لحازم صاغية رغم دأبه على انتقاد جمال عبدالناصر «فى الرايحة والجاية» وكثيرون غيرهم، خصوصا فى مقالات الفكر والتراث، وبعضهم أصدقلاء أعزاء من مصر والبلدان العربية، ومنهم محمد صلاح مدير مكتب الجريدة فى القاهرة.
غروب الحياة أو توقفها الورقى يأتى فى ظرف بالغ الدقة للصحافة العربية، وهو نذير شؤم، إلا إذا حدثت معجزة. فإذا كانت الصحيفة التى يملكها الأمير خالد بن سلطان نائب وزير الدفاع السعودى السابق تعانى أزمة مالية، فكيف يكون الحال فى مؤسسات صحفية تصدر فى «بلدان الجنوب غير النفطية»؟!
هل التوقف ناتج فعلا عن أزمة مالية أم له صلة بتطورات الأوضاع داخل السعودية التى تعيد ترتيب أوراقها فى غالبية المجالات؟!
طبقا لما سمعته من زملاء كثيرين، فإن الأوضاع المالية كانت العامل الأساسى حيث تم الاتفاق على إعادة الهيكلة وضغط النفقات ليكون مكتب الدار فى دبى هو الأساس ويوحد كل الجهد فى غرفة أخبار موحدة من خلال دمج كل الامكانيات لمنتجات الدار المختلفة بسبب تراجع الدخل من الإعلانات، والمفترض انها سوف تستمر فى الصدور إلكترونيا عبر نسخة «البى دى إف».
توقف الحياة خبر مزعج ومحزن لكل محب للصحافة وحريات التعبير، لكنه يطرح مجددا العديد من الأسئلة المهمة عن مستقبل الصحافة الورقية، وأنه لا يمكن الاطمئنان للدعم السياسى بديلا للاستقلال المهنى القائم على نموذج اقتصادى ناجح يلبى احتياجات الجمهور فى مناخ يتمتع بحد أدنى من الحريات.
نأمل أن تعود «الحياة» للحياة قريبا، ونتمنى أن تكون النموذج الأخير الذى يتوقف ورقيا، وربنا يستر!!.
نقلا عن الشروق
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع