صباح الإثنين الماضى، كنت جالسا فى منصة العرض الرئيسية بالكلية الحربية، لمتابعة حفل تخرج الكليات العسكرية، والمعهد الفنى للقوات المسلحة.
هذا الحفل هو الحدث الأبرز والأهم لكل طلاب الكليات العسكرية وأسرهم، قدم الطلاب والخريجون عروضا رياضية وتدريبية رائعة، خصوصا فى فقرة القتال المتلاحم أو فى العرض العسكرى الرئيسى الذى كشف عن لياقة بدنية ممتازة للطلاب.
مشهد الخريجين، وأداؤهم فى هذا اليوم، جعل غالبية من حولى من الزملاء يقولون «اللهم أحفظ هؤلاء الشباب».
ما فكرت فيه وأنا أشاهد هؤلاء الشباب، هو ماذا يعنى وجود جيش موحد، وقوى فى هذه الفترة المضطربة التى تعيشها المنطقة والعالم أجمع؟!.
الجيش المصرى ربما هو الوحيد تقريبا، الذى تنصهر فيه كل فئات وقطاعات وطوائف وأعراق المصريين، هو ليس جيش طائفة أو فئة، فيه الغنى جدا والفقير جدا وما بينهما، فيه المسلم والمسيحى والصعيدى والبحراوى والريفى والقاهرى والنوبى والسيناوى وأبناء القبائل فى مطروح والواحات.
هو جيش لا يقيم فى مناطق معزولة أو مغلقة، بل يذوب داخل النسيج الوطنى العام.
مثل هذا الجيش، صار أمرا نادرا فى المنطقة العربية منذ عام ٢٠١١، لدرجة تجعل البعض يصل لنتيجة مفادها، أن بعض القوى الإقليمية والدولية الكبرى، كانت تطمع فى تفكيك الجيوش العربية خصوصا الرئيسية منها.
نعرف جميعا، الجريمة الكبرى التى أدى إليها الغزو الأمريكى للعراق فى مارس ٢٠٠٣، حينما، قرر الحاكم العسكرى بول بريمر حل الجيش الوطنى القومى. هذا الإقرار الإجرامى، أدى لتكوين المئات من التنظيمات العسكرية، سواء المقاومة للغزو أو المتطرفة، والأخيرة تحولت لاحقا إلى داعش وأخواتها ونجنى ثمارها الآثمة الآن.
وفى مارس ٢٠١١، قررت بعض القوى الإسلامية المتطرفة أن تدخل صراعا مسلحا مع الجيش والدولة السورية، وكانت النتيجة، وجود مئات التنظيمات المسلحة والإرهابية، ومعظمها مرتبط إما بتركيا أو إسرائيل أو الغرب، نظام بشار الأسد كان دمويا وهو يتصدى للانتفاضة الشعبية فى بدايات الثورة، لكن الجرم الأكبر يتحمله من قرر عسكرة الانتفاضة.
الجيش اليمنى انقسم أيضا، وصار لدينا الآن بقايا هذا الجيش، ثم ميليشيا الحوثيين المدعومة من إيران، ثم قوى عسكرية تتبع «الحراك الجنوبى»، وأخرى تتبع «الإصلاح» الإخوانية، وأخيرا تنظيمات تتبع داعش والقاعدة.
فى ليبيا الأمر أكثر سوءا، لأن معمر القذافى، لم يؤسس جيشا وطنيا على أسس حقيقية، بل مجرد كتائب وتشكيلات تخص أبناءه أو بعض مساعديه، وحينما سقط فى شتاء ٢٠١١، ارتكبت فرنسا وبعض دول الغرب وقط، جريمة تدفع المنطقة ثمنها الآن. لم يرتبوا الأوضاع السياسية، وتركوا السلاح فى ايدى الجميع، والنتيجة نشوء مئات التنظيمات والميليشيات المسلحة المرتبطة بقوى إقليمية ودولية متعددة، وحرب طاحنة الآن لتوحيد البلاد تحت راية واحدة وجيش موحد.
فى السودان، نسأل الله أن يجنبهم نفس الفتنة. هناك تمرد مسلح فى العديد من المناطق، وثورة شعبية، تمكنت من خلع عمر البشير فى إبريل الماضى لكن القوى الشعبية والمجلس العسكرى لم ينجحا حتى الآن فى الاتفاق على صيغة حل وسط تجنب البلاد خطر الانقسام فى ظل وجود «قوات الدعم السريع»، أما الأخطر فهو «ميليشيات الظل» التابعة لبعض التنظيمات الإخوانية، التى تضررت بسقوط نظام البشير.
وما ينطبق على السودان، ينطبق على الجزائر، التى نسأل الله أن يتوصل فرقاؤها لحل عادل للأزمة المستعرة هناك. خصوصا فى ظل الانقسامات ما بين الجيش والقوى السياسية، وكذلك الخلاف على الهوية العربية والأمازيغية.
فى الصومال للأسفل لا توجد دولة مستقرة حتى الآن وبالتالى تفتقد الجيش الوطنى، ولبنان يعانى من صراعات طائفية مستمرة، وبعد أن لعب «حزب الله» دورا مقدرا فى تحرير الجنوب من إسرائيل، فقد صار «جيشه» يلقى بظله الثقيل على الأوضاع السياسية الداخلية، إضافة بالطبع لتدخله فى الأزمة السورية.
غالبية الجيوش الخليجية، لديها الأسلحة والعتاد، لكن ليس لديها العناصر البشرية الكافية والمدربة، وهى تواجه هيمنة إيرانية دائمة، واستنزافا يوميا فى اليمن، وتضطر إلى الاستعانة بقوى خارجية لتدافع عنها مقابل «الدفع الفورى».
هذه هى الصورة البائسة، وبالتالى فوجود جيش مصرى قوى ومدرب ومؤهل وموحد، أمر لا يدرك كثير من الناس قيمته. هؤلاء لا يفرقون بين بعض الخلافات الراهنة أو الرؤى العابرة والهامشية، وبين أهمية الحفاظ على هذا الجيش وهذه المؤسسة الوطنية الصلبة.
وكما قال العميد ياسر وهبة، وهو يقدم فقرات الحفل فإنه «جيش من نبت شعبى، محرم على أرحام نسائه إنجاب غير الرجال»، ولولا تضحيات الشهداء من أبنائه وأبناء الشرطة، فربما كنا انزلقنا ــ لا قدر الله ــ لنفس السيناريوهات التى نراها فى المنطقة، وفككت غالبية الجيوش العربية، كى يبقى الجيش الإسرائيلى وحده قويا ومعربدا فى المنطقة.